في امتلاك التقدم العلمي والتقني
كما هو معلوم فإن الاقتصاد المعرفي (K-economy) يتميز بالديناميكية المتسارعة؛ نتيجة للتأثر المباشر بمنظومة العلوم والتقنية والإبداع التكنولوجي، التي تقوم عليها عمليات التنمية حاليا، ويعتمد عليها التطور والتقدم الاقتصادي والاجتماعي والحضاري الحديث كما ونوعا.
وبلادنا الغالية المملكة العربية السعودية كغيرها من بلدان العالم، سعت ولا تزال تسعى إلى امتلاك مقومات التقدم العلمي والتكنولوجي، من خلال العديد من الجهود الواضحة، خاصة في هذه السنوات التي قد حباها الله بدخولات اقتصادية كبيرة. وفي هذا المقال المختصر، أذكر أهم ملامح الجهود الوطنية في سبيل الوصول إلى ما تصبو إليه من تقدم تكنولوجي.. كما يلي:
أولا: زيادة الإنفاق الوطني على البحث العلمي والتطوير التكنولوجي
إن طريق البحث والتطوير طويل وشاق ومكلف في الوقت نفسه، ولكن مردوده يبلغ أضعاف ما ينفق عليه، وإن من أبرز مؤشرات تقدم الدول في منظومة العلوم والتكنولوجيا هو معدل الإنفاق الوطني على البحث والتطوير من الناتج المحلي الإجمالي GDP. وعلى الرغم من أنه لا توجد إحصائيات دقيقة لمعدل إنفاق المملكة في هذا المجال، إلا أن وزير التعليم العالي صرح بأنه قد ارتفع إلى 1.1 في المائة، علما بأن المستهدف هو الوصول إلى 2 في المائة من مجمل الناتج المحلي بحلول عام 1445هـ. وقد تم تخصيص نحو ثمانية مليارات ريال للخطة الخمسية الأولى للعلوم والتقنية والابتكار، و15 مليار ريال للخطة الخمسية الثانية.
ثانيا: تطوير وتنفيذ السياسة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا والإبداع
قامت مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتكنولوجيا بالتعاون مع وزارة الاقتصاد والتخطيط آنذاك وبالاشتراك مع العديد من الشركاء والخبراء بناء على توجيه المرسوم الملكي الصادر عام 1416هـ ببناء السياسة الوطنية للعلوم والتكنولوجيا، ووضع الاستراتيجيات والخطط اللازمة لتنفيذها، التي تم الانتهاء منها وإقرارها من مجلس الوزراء عام 1423هـ وأطلقت فعليا 1428هـ. وهذه الاستراتيجية الوطنية تستهدف الرقي في المملكة لتصبح في مصاف الدول المتقدمة، في العلوم والتكنولوجيا. فرؤية الخطة أن تكون المملكة بحلول عام 2025م مجتمعا معرفيا، واقتصادها مبنيا على المعرفة، وهي تتكون من أربع مراحل خمسية. هذا وتقوم المدينة بالإشراف المباشر على تنفيذ الاستراتيجية بالتعاون مع جميع الأطراف المعنية ذات العلاقة.
ثالثا: التنوع في المراكز البحثية من خلال ما يلي:
1. الجامعات البحثية: بما أن النشر العلمي يعد مقياسا لمستوى الجامعة العلمي والأكاديمي، فإن قيام الجامعة بتنفيذ البحوث والدراسات يدل على المستوى المرموق الذي وصلت إليه في خدمة القطاعات الإنتاجية والصناعية، وترجمة نتائج البحث لنقل التكنولوجيا وتطوير الأعمال الجديدة، إضافة إلى التعاون والشراكة بين الجامعات وقطاع الصناعة والأعمال. وكما هو معلوم في هذا الشأن تم إنشاء أول جامعة سعودية بحثية تقنية متقدمة ومتخصصة، وهي جامعة الملك عبد الله للعلوم والتقنية، وتسعى جامعة الملك سعود إلى أن تكون أول جامعة بحثية من جامعات التعليم العالي.
2. الكراسي البحثية: وتقوم فكرتها على الشراكة بين الجامعات وشخصية أو جهة ما محلية لدعم وتطوير مجال علمي متخصص، من خلال توفير التمويل اللازم لذلك، في حين تتولى الجامعة تهيئة البيئة البحثية اللازمة لنجاح الكرسي، إلى جانب الإشراف على تنفيذ الكرسي لمهامه وتحقيق أهدافه. والكراسي البحثية تنقسم إلى قسمين: الأول: كراسي محلية في المنشآت التعليمية السعودية، والقسم الثاني: الكراسي البحثية في الجامعات العالمية، مثل كرسي الملك عبد العزيز في جامعة سانتا باربارا، وكرسي الملك فهد في جامعة هارفارد، وكرسي الأمير نايف في جامعة موسكو. ومع الأسف- بحسب علمي- لا توجد إحصائية دقيقة لعدد الكراسي البحثية في المملكة، ولكن في مقال الدكتور ناصر العقيلي والدكتور همفريز في المجلة السعودية للتعليم العالي (محرم 1434هـ)، ذكرا أن عددها في إحصائية شخصية في عام 2011 أنها بلغت 250 كرسيا في شتى التخصصات العلمية، ونصفها في جامعة الملك سعود.
3. مراكز البحوث المتخصصة: وهي مراكز قامت بإنشائها الجامعات السعودية للبحوث المتخصصة. وقد بلغ عدد مراكز البحوث المتخصصة في الجامعات السعودية 101 مركز.
4. مراكز التميُّز البحثية: وهي مراكز الأبحاث الواعدة، التي تكون وحدة مستقلة تهدف إلى تحقيق إنجازات بحثية وابتكارية في مجال تخصصي معين كتقنية النانو. وقد دعمتها وزارة التعليم العالي بأكثر من 100 مليون ريال لمدة خمس سنوات، ووصل عددها إلى أربعة عشر مركزا.
رابعا: أودية التكنولوجيا (الواحات العلمية)
بعد موافقة مجلس الوزراء بتاريخ 13/4/1431هـ تم تأسيس شركات وادي الرياض ووادي جدة ووادي الظهران للتقنية كشركات مساهمة وفقا لأنظمتها الأساسية، تقودها جامعات الملك فهد والملك سعود والملك عبد العزيز، وتهدف إلى الإسهام الفاعل في تطوير الاقتصاد المعرفي عبر الشراكة بين المؤسسات التعليمية والبحثية ومجتمع الأعمال والاستثمار على أسس تجارية، هذا وقد تم أخيرا تأسيس شركة وادي مكة للتقنية وواحة الطائف العلمية.
خامسا: المدن البحثية
1. مدينة الملك عبد العزيز للعلوم والتقنية: وهي مرتبطة إداريا برئيس مجلس الوزراء، وقد تم تأسيسها عام 1406هـ. وتقوم المدينة بدعم وتشجيع البحث العلمي للأغراض التطبيقية، وتنسيق نشاطات مؤسسات ومراكز البحوث العلمية في هذا المجال بما يتناسب مع متطلبات التنمية في المملكة. وتشتمل هذه المدينة على متطلبات البحث العلمي كالمختبرات ووسائل الاتصالات ومصادر المعلومات، كما تشتمل على جميع المرافق اللازمة للعاملين في المدينة كالسكن والخدمات الأخرى.
2. مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة: التي أنشئت بأمر ملكي في جمادى الأولى 1431هـ بهدف بناء مستقبل مستدام للمملكة العربية السعودية، من خلال إدخال مصادر الطاقة الذرية والمتجددة إلى منظومة الطاقة المحلية، ولذلك فهي تختص ببحوث الطاقة الذرية والطاقات البديلة كالطاقة الشمسية.
سادسا: جهود القطاع الحكومي والقطاع الخاص
حيث تقوم بعض منشآت القطاع الحكومي والخاص بالمساهمة الفاعلة في أنشطة البحث العلمي، مثل المراكز البحثية الصحية التي من أبرزها مركز الأبحاث في مستشفى الملك فيصل التخصصي، ومركز الملك عبد الله العالمي للأبحاث الطبية. كما أن وزارة الدفاع تقوم مشكورة بدور ريادي وتاريخي في قيادة ودعم وتطوير السياسات الاستراتيجية والممارسات الوطنية، التي تؤدي بصورة مباشرة وغير مباشرة إلى نقل وتوطين التقنية. وأما القطاع الخاص فهو الشريك الطبيعي للقطاع الحكومي في دعم البحث العلمي والتطوير التقني من خلال شراكات علمية مع الجامعات والمراكز البحثية. فهذه شركة سابك للصناعات الأساسية لديها أكثر من 16 مركزا بحثيا داخل وخارج المملكة. وهذه "أرامكو" شركة حكومية لديها مركز الملك عبد الله للبحوث والدراسات البترولية في الرياض، وهو عبارة عن مركز للأبحاث والدراسات ذات أبعاد وآفاق مستقبلية تعنى بأبحاث الطاقة والبيئة والتنمية المستدامة، كما أن لديها مركز بحث وتطوير في الظهران يضم أكثر من 300 باحث.
وعلى الرغم من الدعم المتنامي والمميز لبعض شركاتنا الوطنية في القطاع الخاص، إلا أن دور القطاع الخاص لا يماثل دوره المفترض مقارنة بأمثاله في الدول المتقدمة، الذي يفترض أن يتجاوز نسبته نسبة الدعم الحكومي.
وأخيرا، عزيزي القارئ الكريم.. إن عرض هذه الجهود التي تقوم بها الدولة وقطاعاتها المختلفة لا يعني مطلقا أن بلادنا الغالية قد أصبحت في مصاف الدول المتقدمة تكنولوجيا وعلميا، بل نعلم ويعلم الجميع أننا ما زلنا في أول الطريق والطموح كبير والأمل بالله تعالى كبير.