الهيئة إدارة حكومية ... لا يمكن أن ترضي الجميع
الأجهزة الحكومية سلطة عامة وهذا يعني أنها مسؤولة عن تحقيق المصلحة العامة وليس المصالح الخاصة. وتحقيق المصلحة العامة يقتضي بالضرورة تطبيق القرار العام على جميع فئات المجتمع بالتساوي على الرغم من تفاوت الأذواق والتفضيل فيما بينهم. هذا المفهوم للإدارة الحكومية لا يدركه الكثيرون لأنهم يغيب عنهم جانب العمومية في العمل الحكومي وأنه ليس كالقطاع الخاص حيث يحصل كل فرد على السلعة أو الخدمة بالكمية والنوعية التي يطلبها طالما أنها تناسب ذوقه ودخله. وقبل أن يبدي الواحد منا إعجابه بالقطاع الخاص وكفاءته ويصب جام غضبه على الأجهزة الحكومية وينعتها بالبطء وتدني مستوى الإنتاجية يجب أن يعي أن هناك فرقا كبيرا في الدافع والمقصد بين القطاعين في عملية صنع القرار. فبينما يسعى القطاع الخاص إلى تقديم سلع وخدمات بهدف الربح لمن يستطيع الدفع وهي فئة صغيرة من المجتمع نجد أن الجهاز الحكومي مسؤول عن رعاية مصالح معظم إن لم يكن جميع فئات المجتمع وهو أمر ليس بالسهل، خاصة إذا كان الأمر يتعلق بتنفيذ النظام أو بتطبيق التشريعات والسياسات التي عادة لا يستسيغها الأفراد وينفرون منها بطبيعتهم التي تهوى العمل الطوعي والحرية وليس الإجباري وما يكرهون عليه. وعندما لا يؤمن الأفراد بالمصلحة الجماعية ويكون سعيهم الدائم لتحقيق مصالحهم الذاتية ولو على حساب المصلحة العامة يكون من الصعب عليهم فهم أن تطبيق النظام يكون لمصلحتهم جميعا. وتتطلب القناعة بالمصلحة العامة النظر إليها من منظور الجماعة وليس من منطلق المصلحة الفردية. إلا أن الكثيرين لا ينفكون من محاولة إدراك المصلحة العامة بحساب المنفعة الخاصة فلا يستطيعون لذلك سبيلا، إن القانون العام من أجل الجميع وإن من الضروري لانتظام المجتمع واستقراره وإنتاجيته أن يحترم الجميع النظام سرا وعلانية. ولكن عدم احترام القانون والسعي في الصالح العام هو نفسه يفرض المزيد من الشدة والصرامة في تطبيق النظام بالإكراه لإلزام الناس حدودهم وضمان عدم تعدي بعضهم على بعض أو الإخلال بالأمن أو الأخلاق العامة.
والسلطة العامة إنما نشأت لحماية الناس وحفظ حقوقهم وتحقيق مصالحهم الجماعية التي لا تتحقق إلا بالإجبار. إذ لو أن الناس قاموا بما يجب عليهم القيام به تجاه بعضهم بعضا طواعية لما استلزم الأمر وجود سلطة عامة ولأداروا شؤونهم على أساس من الاحترام المتبادل والسلوك الرشيد والأخلاق الرفيعة. لكن أحضرت الأنفس الشح لتظهر الأنانية وحب الذات حين التعامل ليرى البعض أنه يحق له ما لا يحق لغيره جهلا وعدوانا. وإن كانت الحرية الفردية أمرا ضروريا وحقا إنسانيا أصيلا، إلا إنها تنتهي حيث تبدأ حرية الآخرين. وبذلك تكون الحرية أمرا نسبيا، ما يجعل البعض يتمدد بحريته الشخصية داخل نطاق حرية الآخرين بنظرة مخادعة موجودة فقط في مخيلته لأنه فقط يمتلك النفوذ والمال أو ربما استولاه الاستهتار واللامبالاة اللذان يجعلانه يتوهم أنه فوق العالمين، وللحفاظ على الحرية الفردية الثمينة كان لابد من سلطة عامة تضمن الوقوف عند الحدود لينعم كل فرد بحريته دون التعدي عليها. ولذا ليس هناك حرية مطلقة بل إن وجود سلطة عامة هو نفسه يقلل من الحرية الفردية، فأساس السلطة العامة تنازل الأفراد عن جزء من حرياتهم الشخصية من أجل الضبط الاجتماعي والحماية العامة. فالعقد الاجتماعي الذي يتفق الناس جميعهم فيه على نظام يحقق مصالحهم العامة وهو في حقيقته تقييد أنفسهم بضوابط ملزمة من عند أنفسهم. ولأن الأجهزة الحكومية تستمد سلطتها من هذا العقد الاجتماعي فإنها دائما ما تكون تحت المجهر لأن المواطنين يتوقعون أن تمارس تلك السلطة من أجل تحقيق المصلحة العامة. لكن المصلحة العامة كما ذكر سابقا مفهوم واسع يسعى كل فرد في تفسيرها حسب مصلحته وهو ما لا يصح في كثير من الأحيان ليكون الجهاز الحكومي محل تذمر المواطنين ظنا منهم أنه أخذ حريتهم دون مقابل أي أنه لم يحسن التصرف في السلطة العامة وتسخيرها لخدمتهم.
لا شك أن هناك مساحة كبيرة لتطوير عمل الهيئة ومنسوبيها، وهذا ما يجب أن يدور حوله النقاش بدلا من مطالبة البعض بطريقة مباشرة أو غير مباشرة بتقليص دورها أو حتى إنهائها. وهؤلاء الذين ينطلقون من مبدأ حرية إبداء الرأي في النيل من الهيئة ومنسوبيها يناقضون ذات المبدأ الذي يعتقدونه حين يفرضون رأيهم أو يسخرون ممن يرون في الهيئة سدا منيعا وطوق نجاة للمجتمع من الغرق في التردي الأخلاقي. ولو فهم أولئك فكرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فهما صحيحا شاملا عميقا لعلموا أنها آلية للتغذية العكسية للتحفيز لعمل الأفضل والامتناع عن الأسوأ. هذا الفهم الواسع للأمر بالمعروف والنهي عن المنكر يشمل جميع مناحي الحياة وعلى جميع المستويات الرسمية والشعبية، لذا كانت هناك مجالس نيابية (الشورى والمناطق والمحلية والبلدية) لتكون بمثابة بوصلة لتوجيه المجتمع للخيرية بجلب المنفعة ودرء المفسدة. كما أن على الأفراد أنفسهم التناصح فيما بينهم لتهذيب أنفسهم وإحسان تربية أبنائهم والعناية بأسرهم وتجويد أعمالهم وكل حركاتهم وسكناتهم. هكذا تتحقق خيرية الأمة وترتقي درجات أعلى في السلم الحضاري. إن شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أكبر بكثير من أن يستوعبها جهاز حكومي يقوم بأدوار مقتضبة بمفرده، لذا لا ينبغي أن تختزل في جهاز الهيئة فالكل راع ومسؤول عن رعيته، والجميع أفرادا ومؤسسات معرضون للوقوع في الخطأ ويحتاج التوجيه والتنبيه والتطوير. لكن تظل الهيئة إدارة حكومية ... لا يمكن أن ترضي الجميع.