«المايم».. فن إيحائي يجادل «الصمت» ويراهن على «الفراغ»

«المايم».. فن إيحائي يجادل «الصمت» ويراهن على «الفراغ»

فن المايم أو البانتيوم، هو فن الحركات الإيحائية أو فن التمثيل الإيمائي، وهو يعني فن التقليد أو المحاكاة لكل ماتحتويه الحياة. كان بانتيوم يطلق على المشاهد الراقصة الصامتة والحركات والإيماءات التي تجسد الحياة للشعوب القديمة، مثل التعبير عن السعادة عند الانتصار في المعركة أو بحصيلة صيد وافرة، تماما كما يجسد التعبير عن الطقوس الدينية والروحية للإنسان في ذلك الوقت من احتفالات الزواج إلى تقاليد الميلاد والموت. ومع تقدم قدرات الإنسان التعبيرية وتعقد الحياة وتطور العقل البشري تحولت هذه الأداة التعبيرية من مفهومها البدائي إلى أداة فنية مكرسة واكتسبت مفهوما فكريا جديدا وصل إلى ذروة قيمته ومعناه الجمالي والفني في القرن الـ 20.
بانتيوم هي كلمة إنجليزية من أصل يوناني، أخذت اسمها الأول من راقص كان يرتدي قناعا خاصا، وفيما بعد أطلقها الإغريق على نوع من العروض الفنية التي تتم فقط عن طريق الأفعال الجسدية والإشارات والإيماءات والتي يؤديها ممثلون يعبرون بها عن شخصية الأبطال كما يصوغها المؤلف، أما اليوم فيضيف الباحثون المعاصرون أن علينا فهم ذلك الفعل الصامت والذي تجسَّد عن طريق الحركات الرشيقة كأساس للفن الدرامي.
فن البانتيوم هو فن مستقل لكنه يصبح عاملا مساعدا عندما ينضم إلى عروض أخرى مثل العروض الدرامية أو عروض رقص الباليه، وهو فن شعبي في الدرجة الأولى، يلعب دورا مهما في الألعاب والرقص والاحتفالات الشعبية، لأنه مفهوم من قبل الجميع، باختلاف الأعمار والمستوى الثقافي، ومع ذلك هو فن قادر على إيقاظ اللذة الجمالية لأنه كتصوير خيالي يستطيع بأدواته التعبيرية أن يحرض على التفكير والتأمل في النفس البشرية.
لغة الإشارة ولدت مع الإنسان منذ أول أيامه، وفي كل يوم تولد من جديد لحاجة الإنسان الملحة للتعبير، لقد كانت الإشارة اللغة الأولى للبشر قبل الكلمة، ومع تطور الكلام ظلت حاجة الإنسان لها لتساعده على التعبير عن نفسه، ومع أول لغة مكتوبة للإنسان كانت الإشارة جزء منها، كصورة مرسومة، كما لدى المصريين القدماء.
 اكتسبت كلمة مايم معاني عدة مع مرور الزمن حيث إنها في بدايتها كانت عبارة عن مسرحيات قصيرة تعرض في الأسواق العامة، وكانت موضوعاتها قائمة علي السخرية من أخطاء شخصيات التاريخ اليوناني، ثم انتقلت إلى السخرية من شخصيات المجتمع المعاصر مثل شخصية القاضي، والتاجر، ورجل البوليس. وفي مرحلة لاحقة أصبحت تعني الممثل الذي يقوم بأداء مسرحيات المايم، وكان ممثلوها يعاملون بازدراء وكانت تعتمد بصفة رئيسة على الحركات الكوميدية والهزل والتهريج، إضافة إلي اعتمادها علي الارتجال.
يؤرخ للبانتيوم بثلاث مراحل تطور، التقليد ثم التعميم، والمرحلة الثالثة هي المنهجية بمدارسها واتجاهاتها، انتقل الفن الإيحائي من المسارح الرومانية التي كانت تعرض أمام الإمبراطور قبل أن تشيع في أنحاء أوروبا بفضل الفنانين بعد سقوط الإمبراطورية، وفي القرنين الـ 17 والـ 18 عرفت مسارح أوروبا هذا الفن ممزوجا بعروض الباليه المثيولوجية، وبعد أن تم منع الفنون الإيطالية الكوميدية من العروض الرسمية في فرنسا ظهر البانتيوم بشكله الكوميدي للمرة الأولى، ثم تم إهمال هذا الفن لسنين طويلة قبل أن يعود للصدارة في عام 1923 على يد الفنان الفرنسي جاك ليكوك ممثلا دراما نوح، هذا الفنان الذي يقال عن تاريخ المسرح الفرنسي أنه مر بمرحلتين، مرحلة المسرح ماقبل جاك ومرحلة مابعده. لقد كانت باريس هي وجهة البانتيوم في منتصف القرن الـ 20 بفضل جاك والفنان الفرنسي الآخر مارسيل مرسو.
أما في العصر الحديث وفي بريطانيا تحديدا فقد كانت مدرسة ديسموند جونز لتعليم البانتيوم والتمثيل الإيمائي هي إحدى أشهر المدارس التي خرّجت الكثير من الفنانين والمدرسين في هذا الفن. المدرسة البريطانية فتحت أبوابها على مدى 25 عاما، وقد مارس صاحبها الفنان والمدرس جونز تعليم هذا الفن بمختلف التقنيات جامعا بين المدراس المختلفة فيه، لم يغلق جونز المدرسة 2006 بنية الاستقالة من هذا الفن بل رغبة في توسيع أفقه وزيادة معارفه وفي التفرغ كمدرس بانتيوم مستقل.
تعد مدرسة إيتيان داكرو وهي التمثيل الصامت الدرامي الجسدي، إضافة إلى مدرسة مارسيل مرسو التمثيل الصامت الغبي إحدى أهم مدارس هذا الفن، ويتصدر على المستوى العربي الفنان المصري أحمد نبيل الذي ساعده أحد المستشرقين على تطوير موهبته وتقديمه إلى لجان عالمية متنوعة نال جوائز في بعضها.
يخلط الكثيرون بين فن التمثيل الصامت وبين الفن الإيحائي، فالتمثيل الصامت هو مشهد متكامل بعناصره لا ينقص منها إلا الصوت، بينما الإيحائي فهو يعتمد على خيال الجمهور في فهم المشهد، ولذلك فإن من المهم أن نعرف أن الفنان العالمي تشارلي تشابلن ليس أحد رواد هذا الفن، لأنه ممثل وكوميدي أفلام صامتة لا إيحائية.
يبقى أن إرث الإنسان من الكتابة والتمثيل والمسرح والرسم والموسيقى والأدب والغناء والنحت، ليس إلا صورا مختلفة لحاجة إنسانية واحدة، هي "التعبير" عن الذات، منذ اللحظة الأولى للإنسان على هذه الأرض، والتعبير بالحركة والإيماءة الجسدية من أقدم صور التعبير وأكثرها عمقا وصدقا والتصاقا بالنفس.

الأكثر قراءة