العبودية كقضية عادلة
ينطلق الفيلسوف اليوناني أرسطو"322/384 ق.م" من فكرة مفادها: أن الطبيعة " لا تفعل شيئأ باطلا"وأن كل شيء يتحرك في هذا العالم لما فيه خير، ويؤدي مهمته و"واجبه" المنوط به، فالأصل في الأشياء الثبات وكل يحتل منزلة تليق به. فالعالم يشتغل وفق خطة تراتبية محكمة. فإذا ما بدأنا بنظرة أرسطو للكون فإنه صاغ تصورا استمر حتى حدود القرن السابع عشر قوامه أن العالم عبارة عن كرة محدودة . لأن الكرة هي أكمل الأشياء، ومحدود لأن له مركز هو الأرض.
كما أنه يجعل من القمر فاصلا لهذا الكون إلى مرتبتين: سفلي حيث التغير والفناء وعلوي حيث الكمال والثبات، أو بعبارة أخرى فالعالم معه مكون من قسمين: عالم ما تحت القمر وعالم ما فوق القمر: أي عالمنا وعالم النجوم والكواكب. الأول أرضي: يتركب من عناصر أربعة مختلفة مترا تبة وحركاتها مستقيمية (أسفل / أعلى) بحسب الثقل والخفة وتسمى الأسطقسات ( التراب، الماء، الهواء، النار ) وهي الأساس الذي تتولد منه باقي الأشياء. إنه عالم التغير والتوالد والتحلل، باختصار: هو عالم الكون والفساد. أما الثاني فسماوي: ويتكون من مادة الأثير أو العنصر الخامس والتي ما هي بالثقيلة ولا بالخفيفة، لها حركة دائرية أزلية، إنه عالم غير قابل للتوالد أو الهدم فلا مجال فيه إلا للكمال والثبات. باختصار فالعالم ليس متشابها بل متفاوت من حيث الشرف والحظوة.
#2#
إن ترتيب العالم حسب أرسطو محكم جدا، فكل شيء فيه يجب أن يلزم مكانه المعد له، فالموجودات منظمة تصاعديا من الأدنى إلى الأعلى كل في مكانه يؤدي وظيفته وغايته. فالجماد مثلا وهو أدنى مراتب الموجودات حيث هيولاه مادته
تتفوق كثيرا على صورته"روحه" هو موجود ليخدم النبات الذي يتغذى ويرتوي من مواده. كما أن النبات يخدم الحيوان والحيوان بدوره مسخر للإنسان، هذا الأخير يتربع على قمة التسلسل الهرمي، فهو أعلى موجود في العالم السفلي والكل مشيد لأجله.
إﺫا التراتب يشمل حتى الإنسان، فالناس درجات ومعادن، يعلو بعضها فوق بعض، تختلف من حيث الشرف والحظوة والمكانة . فالنظام الاجتماعي مماثل للنظام الكوني في تراتبيته، حيث تسعى الطبيعة وتميل إلى إيجاد هﺫا التمايز بين البشر، فهناك الذكي والغبي، الغني والفقير، الحاكم والمحكوم ، السيد والعبد، الرجل والمرأة ... والعلاقة بين هذه الأزواج علاقة سيطرة وخضوع الأدنى والمنحط للأعلى والأسمى. فمبدأ اللامساواة ليس اختيارا بل أمر حتمي مفروض ولا يجب أن نسبح ضده، فهو الخير والغاية المطلوبة. ولكي نوضح الأمر أكثر سنقف عند مسألة حساسة جدا في تاريخ البشرية و هي مسألة العبودية، فنظرة أرسطو لها تثبت خضوعه المطلق لنسقه التراتبي. فهو من طبيعة الأشياء ولا يجب السير عكسه .
يدافع أرسطو بقوة عن العبودية، بل يؤسس نظرية كاملة حولها، تقوم على أساس أن العبودية أمر طبيعي وهي الأحسن للعبد، بمعنى آخر أن هناك أشخاصا يولدون عبيدا من الوهلة الأولى، وهو ما يصطدم بالقيم الأساسية المعاصرة المنصوص عليها مثلا في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان لسنة 1948، الداعية للمساواة بين البشر( المادة1)، وعدم جواز استرقاق أو استعباد الناس( المادة4). فكيف يمكن أن نفهم ﺫلك؟ وكيف يمكن أن يصدر إﺫا من فيلسوف كالمعلم الأول، والذي كان لأفكاره الصدى و الذيوع خلال القرون الوسطى؟
إننا عندما نعود إلى كتاب أرسطو "في السياسة " وبالضبط إلى الفصل الثاني المخصص لأصل السيادة والاستعباد، نجد أرسطو يشرح قضية العبودية ويشرعن لها معتبرا الخادم بمثابة الآلة الحية الأساسية في البيت فيقول:" وكما أن الصناعات المحدودة تحتاج إلى آلاتها الخاصة لإنجاز العمل، كذلك الإدارة البيتية تحتاج إلى أدواتها الخاصة للقيام بشؤونها. ومن الأدوات ما هو جامد ومنها ما هو حي: فهكذا الربان يستعمل الدفة وهي من الجمادات، ويستعين بسائق مقدم السفينة وهو من الأحياء.إذ إن الخادم في الصناعات هو بمثابة الآلات"، من هﺫا الكلام تبدو نظرة أرسطو التشييئية للعبد، وأنه ليس ملك نفسه فهو تابع للسيد الحر.
ويستمر أرسطو وبطريقته المنهجية الصارمة المعهودة بطرحه السؤال التالي: "يتعين علينا أن نبحث هل العبد عبد بالطبع أو لا، وهل الرق خير للبعض وعادل أو لا، أم هل كل عبودية تناقض الطبيعة؟" ليجيب بقدرية وجبرية واضحة كون أن هناك من الكائنات من يفرز مند نشأته للخضوع وهناك من يفرز للرئاسة، مؤكدا على أن جودة الرئاسة من جودة المرؤوسين وتكاثف جهديهما يؤتي عملا مجديا. ولمزيد من بناء نظريته يرى أرسطو أنه كما تتحكم النفس بالجسد فالأمر كذلك بالنسبة للحر فهو من يتحكم في العبد " وبناء عليه ، فكل من انحط شأنهم انحطاط الجسد عن النفس أو الحيوان عن الإنسان: كانوا عبيدا من طبعهم، لا سيما إذا بلغ بهم الانحطاط إلى حد لا يرتجى معه منهم سوى استعمال جسدهم كأفضل ما يصدر عنهم".
إن أرسطو ينظر إلى غاية المرء في المجتمع لا إلى غايته المجردة، فمن هو في الأسفل يخدم من هم في الأعلى ، لهذا فمن الخير أن يخضع العبد لسيده فهو معد لذلك ومتماشيا مع طبيعة الأمور، ومن مصلحته أن يتم التحكم فيه. بل إن أرسطو يتمادى في هذا التوجه التراتبي ليقيم التشابه بين العبيد والدواجن لأنهما معا يساهمان في سد حاجات الجسد. وبعد العديد من الحجج الأخرى التي قدمها أرسطو يخلص إلى النتيجة التالية " لقد ظهر بجلاء أن البعض أحرار بالطبع وأن البعض أرقاء بالطبع" فالعبد عبد أينما وجد، والحر حر أينما وجد أيضا. فالعبودية إذن قضية عادلة وعلاقة السيد بالعبد لا يجب أن تفسد وإلا عادت عليهما بالويلات لأن منفعة الجزء والكل واحدة ، وما العبد إلا جزء من سيده.
إن النظرية القديمة خاصة في جذرها التراتبي للعالم أصبحت ولقرون طويلة بمثابة "باراديغم" أي نموذج ذهني موجه للرؤية والسلوك، فمسألة أن هناك الأدنى والأعلى، ولكل شيء وظيفة ومستقر وأن الناس معادن ... أصبحت خلفية فكرية ومرجعية نظرية متغلغلة في الفكر الإنساني، حيث أصبح الخروج منها شبه مستحيل، إذ لم يتملص منها أعظم مفكري القرون الوسطى، بمن فيهم العلامة ابن خلدون.
إذن لقد شكل الباراديغم الأرسطي الهرمي الخلفية الواعية وغير الواعية للإنسان في القرون الوسطى، حيث كان الموجه لأنماط سلوكه و أحكامه في كل القضايا التي تمسه، فكون الناس درجات ومراتب مبرر جدا لأن الخلفية النظرية السائدة تسمح بذلك. فكل حديث عن المساواة آنذاك هو حديث أحلام لأن الذهنية لم تنضج بعد ولم تصل إلى مستوى إسقاط منظومة التراتب، فكان على البشرية إذن انتظار جواز مرور نظري جديد يمكن تحديده في سنة 1543 م وهي سنة موت وصدور كتاب عالم الفلك كوبيرنيكوس "في دوران الأجسام السماوية" كي تبدأ اللمسات الأولى لهدم تراتبية الكون، بحيث أصبحت معه الأرض السافلة تحتل مكانها في السماء الكاملة.
أستاذ الفلسفة/ المغرب