قصص من حياة مراجع داخلي .. احذر أن يستغلك موظف كسول
كما وعدتكم، هذه قصة أخرى جميلة من المواقف التي واجهت صديقنا المراجع الداخلي، ويرجع حرصي على عرض مثل هذه الحالات أنها لا تدرس في الجامعات، ولن تجدها في الكتب والمحاضرات التدريبية، ومع ذلك فهي تواجه معظم المراجعين الداخليين وفي شتى القطاعات والأجهزة، وخاصة الحكومية منها. قصتنا اليوم غريبة جدا، وهي من القضايا التي يتورط فيها المراجع الحريص جدا (أكثر من اللازم) على اكتشاف الخطأ بدلا من القيام بعمل مهني بحت موضوعي ومستقل، لذلك نحن نؤكد دائما على أن يصمم المراجع أعماله وخطته وفق أسس موضوعية وإجرائية، وليس من أجل اكتشاف الغش والخطأ. ذلك أنه إذا صمم خطته على أساس اكتشاف الغش، فإنه حتما سيصبح مشوشا ومتحيزا لفكرة واحدة فقط مما يضيع عليه وقته وجهده بلا طائل في كثير من الأحيان، لذلك نصر دوما على أن يقوم المراجع بتصميم إجراءاته وأعمال المراجعة وفقا لدراسة المخاطر الحقيقية.
في قصتنا اليوم، كان المراجع مصرا على أن هناك غشا، لذلك جاء إلى الموظف وهو يحمل هذا الشعور، وبدأ يعمل لتحقيقه، فوقع في فخ الموظف- اللئيم- الذي استغل هذا الشعور أفضل استغلال. لنترك صديقنا يروي قصته، فيقول: تم تكليفي في أول حياتي المهنية بمراجعة دفاتر وحسابات أحد الموظفين المسؤولين عن المستودعات في المؤسسة، وكنت حريصا على إثبات مهارتي في اكتشاف المتلاعبين، وأعمل جاهدا على كشف وفضح طرق الفساد التي أسمع عنها ولم أكتشفها بعد، لذلك وقبل أن أذهب إلى هذه المهمة بدأت أجمع معلوماتي عن الموظف وعن المستودع وعن كل ما يقال ويشاع عنه، ومع الأسف كانت كلها سلبية، والجميع يؤكد أن أمرا ما يحدث، وأن الموظف يتلاعب بالدفاتر تماما، سألت أحد الزملاء السابقين- وكان مثلي بلا واسع خبرة- فقال احذر منه، دفاتره غير مضبوطة، ولكنه حريص. حملت أوراقي وأقلامي وإجراءاتي وذهبت وفي قلبي وعقلي شيء واحد فقط، هذه المرة لن ينجو منها وسأكتشفه حتما، فقد جاءه اليوم من يخرج أسراره.
في المستودع الضخم يصيبك الرعب لأول وهلة، هناك الكثير من الرفوف المليئة بالصناديق والدهاليز التي يمضي فيها ضوء النهار حتى يموت في نهاية الممر، بعض الإضاءة الكهربائية تظهر وتختفي، أكواب الشاهي تتناثر في كل مكان، تشير إلى عدد الناس العاملين هنا ولا تراهم، لا أحد موجود أمام عينيك، لكن هناك ضوضاء، وعامل يحمل بعض الأغراض توقف فجأة ونظر لي بريبة، ثم عاد أدراجه، قلت في نفسي لعله أراد أن يخرج شيئا ما، فلما رآني أعاده إلى مكانه. دخلت مكتب أمين المستودع، فوجدته فوضويا إلى أبعد حد، أوراق في كل مكان، ومجموعات من المستندات في كل زاوية وركن، هناك فوق المكتب وعلى الكراسي وفوق الرفوف. رفعت بعض الأوراق بهدوء من فوق الكرسي ثم جلست أنتظره. فجأة سمعت صوتا جهوريا، ولكنه كسول ينادي على أحد العمال يطلب منه أن يغلف شيئا ما ويرفعه من مكانه، ثم دخل المكتب رجل في العقد الرابع من عمره، نظر إلي مرحبا ولكن بريبة، فبينت له أنني المراجع الداخلي، جئت من أجل مراجعة السجلات ومطابقة الفواتير، وأقول لكم: الحقيقة لم أكن أتوقع ما حدث منه بعدها.
رحب أيما ترحيب، وبصدق لم يكن لمثل هذا الترحيب أن يصدر من شخص لديه ما يخفيه أو يخاف منه، ثم استأذنني لإنجاز بعض الأمور وتسلم بعض المواد، أعطاني الدفاتر وقال لي: اعمل براحتك حتى أعود، وهنا بدأت حقيقة الرجل تتكشف أو هكذا ظننت، لم يكن يقيد شيئا من المستندات، ولذلك بدأت أشك فيه. هناك الكثير مما يجب تسجيله، ولا أعتقد أنه امتنع عن ذلك إلا لأمر ما، وقررت أن أكتشفه. كنت جاهزا له تماما هذه المرة. عندما عاد واجهته بهذه المشاكل في التسجيل، لكنه نظر إليَّ غير مهتم، لذا بدأت أحدد له بعض ما كان يجب تسجيله، وطلبت منه المستندات المؤيدة، جلس هادئا ثم كأنه تذكر شيئا فنهض سريعا واتجه نحو أحد الرفوف وعاد يحمل حزمة من المستندات وسلمها لي قائلا والابتسامة تعلو وجهة إنها هنا، وفعلا كانت كذلك، طلبت منه أن يقيدها فورا، لكنه اعتذر بأن عليه أن يكمل طلبية عاجلة من رئيس المؤسسة العام، وهذه لا نقاش حولها، ذهب وتأخر حتى اقترب موعد نهاية الدوام، وكنت أريد أن أنهي مهمتي في هذا اليوم وبأي شكل، وبدأت أفقد صبري وبدوت مستاء جدا عندما عاد، ووضحت له موقفي من دفاتره، وأنني يجب أن أخرج بنتيجة هذا اليوم، ووعدني أن ينجز كل شيء حالا، ولكن بسبب حجم الأعمال يريد مني مساعدته في ذلك. وكانت هذه فرصتي حتى أنهي عملي، وفي الوقت نفسه أراجع جميع المستندات معه.
بدأنا نعمل، واكتشفت المئات من المستندات لم تسجل، فقمت بفحصها وتسجيلها معه، واستمر العمل هكذا حتى انتصف الليل وانتهينا بعد مشقة كبيرة من تنظيف المكتب الفوضوي، وأقولها اليوم بمرارة لقد كان كل شيء منضبطا، ولم أجد عنده عجزا أبدا، لقد كانت كل مستنداته، سليمة ولا يوجد تزوير أو تلاعب، وقفت منهكا تماما، وفي المقابل، وقف أمامي سعيدا جدا بهذه النتيجة، وشكرني جدا وبحرارة؛ لأنني ساعدته على إغلاق الدفاتر وتسجيل الفواتير المتأخرة. وهنا اكتشفت حقيقة الرجل والتلاعب الذي يمارسه هذا الشيطان. لقد كان يترك الفواتير عمدا طوال عام كامل بلا تسجيل حتى إذا جاءه المراجع متحمسا يريد الفوز بصيد ثمين، قام باستغلاله لتسجيل الفواتير والمستندات المتأخرة، وضبط الدفاتر، وأملا في إنهاء المهمة والبحث عن التزوير، وعادة ما يقوم المراجع قليل الخبرة بالعمل معه على ذلك وفي ليلة واحدة، أنه يترك عمل سنة كاملة بانتظار مراجع متحمس مثلي. عرفت حينها معنى الموضوعية والاستقلال في العمل، وألا أتحمس أكثر مما يجب، وأن أترك الإجراءات والعمل المهني يأخذ مساره الطبيعي. لقد كلفتني هذه التجربة مراجعة الطبيب لعلاج ألم الظهر الذي أصبح مزمنا يذكرني كل مرة بهذا الرجل ومستودعه.