الهدوء القاتل
مهما حاولنا الانعزال عمن حولنا واللجوء إلى أماكن هادئة بعيدة عن الضجيج في بعض الأحيان، إلا أن أصواتهم تصلنا، فعندما تهرب إلى غرفتك وأنت تعتقد أنك حصلت على الهدوء يظل صوت مكيفها يخترق صمتك حتى لو كان من أجود الأنواع، ولو غادرت منزلك إلى الصحراء حيث الهدوء والسكينة ستجد مختلف الأصوات من حولك. لن يتوقف سماعك للأصوات أبدا مهما حاولت حتى وأنت نائم تظل أذناك متيقظتين ــ كما أثبتت ذلك الدراسات ــ ويبدأ سماعك للأصوات وأنت في رحم أمك ولا يتوقف أبداً إلا بموتك!
ولم ينم أصحاب الكهف أكثر من 309 أعوام، إلا لأن الله ضرب على آذانهم أي سدها عن سماع الأصوات من حولهم كما قال ابن عباس في تفسيره لقوله تعالى "فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا".
ولكن شدة الهدوء وأنت مستيقظ قد تؤدي بك إلى الجنون حين يطبق عليك الصمت وتكون معزولا تماما عن العالم، حينها لا تستطيع إلا سماع صوت أعضائك، دقات قلبك، تنفس رئتيك، حركة معدتك وأمعائك ولا شيء سوى ذلك!
يحدث هذا في أهدأ مكان على وجه الأرض كما صنفته موسوعة جينيس للأرقام القياسية، في غرفة تابعة لمختبرات أورفيلد في ولاية مينيسوتا في أمريكا بنيت بدقة لجعل جدرانها قادرة على امتصاص 99.99 في المائة من الأصوات، وذلك بصناعتها من الحديد والأسمنت والألياف الزجاجيّة العازلة للصوت بطول متر، وغُطّيت أرضيتها بشبكة مفرّغة تشبه الترامبولين "النطيطة" وتعرف بالغرفة عديمة الصدى!
باستطاعة الإنسان سماع الأصوات التي لا تقل عن صفر ديسيبل "شدة صوت حالة الهدوء التام"، بينما المحادثة العاديّة تصل شدة الصوت فيها إلى 60 ديسيبل، والأذن البشرية حساسة جدا، فكل عشرة ديسيبل تزيد شدة الصوت عشرة أضعاف، ولكن في الغرفة عديمة الصدى يصل قياس الضجيج إلى ــ 9.4 ديسيبل أي صمت مطبق، مما يجعل من هذه الغرفة مكاناً موحشا وعذابا لا يطاق. مع الوقت تزيد حساسية الأذن وتصبح أعضاء الإنسان فيها هي المصدر الوحيد للصوت، ولم يستطع أحد المكوث فيها أطول من 45 دقيقة، ومن يبقى فيها أطول يبدأ بالهلوسة والهذيان!
ولم تُعمل هذه الغرفة للتسلية أو لكسر الأرقام القياسية بل تستخدم في أبحاث الصوت لقياس مستوى أصوات منتجات بعض الشركات، مثل الغسّالات والبرّادات والدرّاجات الناريّة قبل تسويقها، كما تستخدم "ناسا" غرفة مشابهة لتعريض روّاد الفضاء لاختبارات الضغط والتحمّل. ويسعى مؤسس هذه الغرفة "ستيفين أورفليد" لكسر حاجز 45 دقيقة بفتح باب الزيارة للعامة تحت إشراف مختصين وستكون مكلفة حيث يصل إيجار الساعة الواحدة إلى 400 دولار.