الفكر السلفي وأهمية تقنينه مؤسسيا
هناك هجمة شرسة على المنهج السلفي وتضليل متعمد وخلط للأوراق وإلصاق تهمة الإرهاب به حتى بلغ الأمر في وصف الالتزام بالتعاليم الإسلامية تنطعا وتشددا غير مبرر. لقد بلغ الأمر حد الوقاحة في أسلوب الطرح السمج الذي لا يراعي مشاعر وقيم الغالبية العظمى من المجتمع السعودي، إضافة إلى عدم مصداقية ومنطقية ما يطرحونه حين يقارنون السلفية الطهورية الوسطية المعتدلة بحركات إرهابية بل غير إنسانية جاهلة همجية مثل "داعش" والقاعدة. وعندما تفرغ مفاهيم الإسلام الصحيح "الخالي من البدع والشركيات" من معانيها ويتم وضعها خارج سياقها ومن ثم الحكم عليها جزافا أنها مفاهيم إرهابية يكون ذلك تدليسا وظلما وعدوانا. إن تفسير المفاهيم والحكم على الأحداث اعتمادا على الهوى ورؤى شخصية صرفة دون مراعاة للمرجعية العلمية والتأصيل الشرعي يكون كلاما عبثيا مغرقا بالجهالة. ومن جهة أخرى، هو تعد على منهج الأمة ومصالحها العليا وهم بذلك يكونون معول هدم وسوسة تنخر من داخل نظامنا السياسي من حيث ندري أو لا ندري. فهذا الهجوم العنيف لا يستهدف السلفية كنهج إسلامي يحافظ على ما كان عليه السلف الصالح، ولكن كإحدى ركائز شرعية النظام السعودي التي اتخذها منهجا في إدارة المجتمع على مدى ثلاثة قرون نعم فيها بالاستقرار والأمن والمهم الحفاظ على صحة الدين. هناك من يريد الانسلاخ من الهوية الوطنية المحافظة ويرى أن التغريب سياسيا وثقافيا أفضل لاستقرارنا وازدهارنا لأنه يتماشى مع التوجهات العالمية نحو الديمقراطية وحرية التعبير وكأنما إسلامنا يفتقد تلك القيم بل هو يزيد عليها. هؤلاء إما لم يقرأوا التاريخ أو لم يفهموه، وقبل أن يقفز أحدهم ويسرد الأحداث المأساوية في تاريخنا الإسلامي، نذكره أن حربين كونيتين هما من صنع الغرب المتحضر ولم تردعه ديمقراطيته الانتقائية من ممارسة الإرهاب والتعدي على حقوق الآخرين وما يجري حولنا من أحداث سواء كان ذلك في غزة أو سورية أو العراق دليل على ذلك. لكن هو النظر بعين واحدة والكيل بمكيالين من الساخطين على حال الأمة فوصل الإحباط إليهم وسيطر على أفكارهم حتى رأوا أن المخرج في اتباع نهج الغرب دون تمييز بين الغث والسمين حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلوه. وهم بذلك اختاروا السبيل الأسهل لأن الهدم كما يقول ابن خلدون أسهل من البناء، فراحوا يسعون في هدم النهج السلفي بدلا من الاستفادة من منهجه الحضاري وهويته القوية طيلة ثلاثة قرون مضت. وكانوا في مسعاهم الهدام يصطادون في الماء العكر فيحورون الأحداث ويلوون أعناق التصريحات السياسية لتكون في سياق فكرهم التحرري.
إن القيم الإسلامية التي مرتكزها الدين كما جاء به الرسول القائد عليه الصلاة والسلام والتزام أصحابه الكرام من بعده فكان أن بقيت الدعوة تصدح في مشارق الأرض ومغاربها ويزداد اتباعها يوما بعد يوم. وهي بلا شك عقيدة مشتركة للملايين تمثل قوة سياسية يخشاها الغرب وهو أمر لم يعد خفيا فهي موثقة في دراساتهم وأبحاثهم الاستراتيجية وما يحدث على أرض الواقع في المنطقة أكبر دليل. ولذا كان من مصلحتنا -على الأقل من الناحية الاستراتيجية إن لم يكن من ناحية دينية- تعزيز العمل على قيادة العالم الإسلامي من خلال الالتزام بالمنهج السلفي الصحيح فهذا سيمنحنا قوة تفاوضية مع الآخرين. ولذا يجب ألا تختزل العلاقة مع الغرب بالمصالح لأن المصالح في النظرة الغربية مرتبطة بمقدار القوة التي يملكها الطرف المقابل للتفاوض وعندما نضعف يتحول التفاوض إلى ابتزاز. وهم "أي الغرب" يعملون على ذلك عبر خلق أحداث داخلية وخارجية تضعف موقفنا. من بين تلك الأساليب هو إضعاف تأثيرنا على العالم الإسلامي من خلال إضعاف ارتباطنا بالنهج السلفي قوي الهوية الخالي من الشركيات والخزعبلات والتحول عنه إلى منهج ضعيف يطبق فيه المنهج الإسلامي بانتقائية ليتحول إلى منهج مشوه أو بالأحرى معطل. فالنظام أي نظام يلزم لنجاحه تطبيقه بالكامل كما أريد له وإلا تحول إلى مسخ. ولذا كان من الأجدى لأولئك الذين يدعون رغبتهم في الإصلاح والتطوير البحث في سبل تطوير تطبيق القيم الإسلامية في إدارة المجتمع وليس محاربة مبادئها وقيمها. مشكلتنا كمجتمع يواجه تحديات سياسية واقتصادية وثقافية هي في تطوير أسلوبنا في صناعة القرار الجمعي. وهذا لا يتأتى إلا من خلال التحول بقيمنا الإسلامية إلى عمل مؤسسي يتم الاحتكام إليه في عملية التنمية الوطنية وتطوير أجهزتنا الحكومية وسبل ممارسة السلطة العامة. إن التوفيق بين المفاهيم والقيم الإسلامية على المستوى النظري والممارسة أمر أساس في تحقيق الاستقرار والاستدامة والاجتماع. فالمفاهيم إذا لم تربط بمرجعية قانونية تعرفها إجرائيا كانت محل خلاف وتصادم، والأدهى والأمر أن تكون مرتعا خصبا لأولئك الذين يسعون بالفتنة وتفريغ تلك المفاهيم الإسلامية من معانيها الأصيلة ومقاصدها النبيلة وتفسيرها بطريقة تخدم أجنداتهم الشخصية.
لقد حان الوقت لوضع إطار قانوني مؤسسي عام يستقي من القيم والتعاليم الإسلامية يجعل الجميع على بينة من الأمر بدلا من حال الانفلات القيمي الذي اختلط فيه الحابل بالنابل وتجرأ فيه البعض على الثوابت الوطنية وهدفهم تقويض بنائه السياسي والاجتماعي والثقافي من قواعده. وهذا يدعو علماء الشريعة الأفاضل إلى توسيع دائرة اهتمامهم وبحثهم لتتناول القضايا الكبرى بالتشارك مع المختصين في مجالات السياسة والقانون والإدارة والاقتصاد والاجتماع وغيرهم، للخروج بإطار قيمي مؤسسي يكون بمثابة موجه ومرشد ومرجع لصناعة القرار العام وأساس للتحاكم فيما يصح وما لا يصح في القضايا العامة. وربما هذا ما أراده والد الجميع الملك عبد الله حينما دعا بحرصه المعهود وتوجيهه الأبوي وحسه السياسي العلماء الأفاضل إلى الاجتهاد في التصدي للقضايا والتحديات وتوسيع دائرة بحثهم ونقاشاتهم لتطوير آليات وأساليب أكثر واقعية وفاعلية واستدامة. فلم يعد يكفي ردات الفعل عبر الفتاوى، ولكن لابد من عمل مؤسسي مخطط. فالمفاهيم والقيم دون عمل مؤسسي يلتزم تطبيقها تكون ميتة وجسدا بلا روح يحولها من يشاء عن مسارها ويتم تسخيرها لمقاصد شريرة شيطانية كما تفعله "داعش" والقاعدة. نحن السعوديين مطالبون ومطلوبون لقيادة الأمة الإسلامية، وأول ما ينبغي عمله هو وضع إطار مؤسسي للقيم الإسلامية للاحتكام له في العالم الإسلامي منبعه العقيدة الصافية عقيدة السلف الصالح.