عنيزة تحمي غابات الغضا

تحمل أهل عنيزة الكثير من تغيير المعالم التاريخية والعبث بالآثار، بل مسحها من الوجود لصالح مركز تجاري أو فتح شارع جديد. ولكن عندما نما إلى أسماعهم فكرة تهميش شجرة الغضا والتخطيط لشق طرق جديدة تمخر مناطق الغضا وربما تحولها إلى أحياء، فالأمر مختلف تماما. ومثلما يقول المثل، ما دون الحلق إلا اليدين، وكل شيء إلا "اشْجِيرات" الغضا. فبالنسبة لأغلب أهل عنيزة، شجرة الغضا توازي في غلاها عندهم شجرة النخل، على الرغم من أن الأول لا يعطي ثمرًا للإنسان. ومن شدة ارتباط شجر الغضا بحياة المواطنين، أوجدوا له مناسبة سنوية، أسموها "مهرجان الغضا"، وفيها تجتمع معظم الأسر مع أولادهم في متنزهات الغضا، إلى جانب كثير من الزوار والسائحين من خارج مدينة عنيزة. ولأن الغضا أصبح جزءا لا يتجزأ من حياة مجتمع عنيزة، فقد خصصوا له جناحًا خاصًّا في ركن عنيزة من مهرجان الجنادرية السنوي، ولكن ما هو الغضا؟ وما قصته وارتباطه بحياة سكان المنطقة؟ وهل الأمر يستحق أن تتحول القضية بالنسبة لأهل عنيزة إلى "حدث العصر"؟
منطقة الغضا محمية طبيعية بدون أسوار ولا شبوك، تقع إلى الجنوب الغربي من مدينة عنيزة. وتمتد أشجار الغضا فوق مساحة تزيد على 100 كيلو متر مربع، فوق رمال نظيفة وجميلة اللون. وقبل أن تكون منفذًا سياحيًّا لأهل عنيزة وما جاورها من المدن والقرى، فقد كانت في الزمن الماضي مرتعا خصبا لرعي الإبل. وبداية فرض الحماية على شجر الغضا كان من أجل استخدام ذوائبه الخضراء "كحمض" للإبل التي كانت تعيش على الأعلاف المزروعة وتنقصها مواد معينة ومتوافرة في أوراق الغضا. وكانت الحماية تحت سلطة ورعاية إمارة عنيزة حتى عصرنا الحاضر عندما انتقلت المسؤولية إلى الشؤون البلدية، لكون المحمية أصبحت معلما سياحيا مهما. ومن المحتمل أن بدء الحماية الأولى كانت قبل أكثر من 150 عاما. وتتميز شجرة الغضا بكبر حجمها وسعة محيطها. فقد يصل ارتفاعها إلى أكثر من خمسة أمتار ومحيطها إلى ستة أمتار. وتنبت في البيئة الرملية وتعيش على القليل من مياه الأمطار. ولولا الله ثم الحماية الكثيفة التي أولاها إياها المسؤولون في عنيزة عبر التأريخ والتعاون غير المحدود من قِبل الأهالي خلال السنوات الطويلة الماضية لكان شجر الغضا قد اختفى من المنطقة بالاحتطاب الجائر. فشجرة الغضا دخانها قليل ورائحتها زكية وجمرها حار ويدوم مدة طويلة، ولذلك يفضلها المستهلكون على غيرها من أنواع الحطب. عاش الغضا في منطقة عنيزة خلال السنوات المتأخرة مهددًا من قِبَل محترفي الاحتطاب، بعد أن ارتفع الطلب على استخدام وقود الطهي قبل توافر المواد البترولية، ولكن أخطر تهديد تعرض له في العصر الحديث كان قبل أكثر من 30 عامًا. فقد بلغ أهل عنيزة أن أحد كبار أصحاب الأراضي كان يُخطط لتطوير مساحات كبيرة منها، التي تحوي شجر الغضا ويتصرف فيها كيفما شاء. وكان ذلك يعني حرمان الأهالي من التمتع بمناظرها وبيئتها وقضاء أوقات جميلة بين طعوسها وأشجارها. فاتفق الجميع على أن يستنجدوا بالملك فهد- رحمه الله- من أجل منع أي تعدٍّ على هذا المرفق الحيوي بالنسبة لهم. وفعلا أرسلوا وفدًا خاصا على وجه السرعة إلى الملك، وشرحوا له الوضع والعناية الفائقة التي كانوا يولونها لشجر الغضا. ولم يخب ظنهم فيه رحمة الله. فقد أصدر توجيهاته بألا يتعرض أحد لهذه المحمية الطبيعية، كونها تاريخا، وحديثا تحت حماية ورعاية المسؤولين في عنيزة ومرفقًا مهمًّا للسياحة الشتوية في المنطقة.
ونحن واثقون- بإذن الله- بأن رغبة أهل عنيزة، وهم أصحاب الشأن، ستقدم على جميع المصالح الأخرى مهما كانت، ولن يحدث أي تغيير لما هو واقع اليوم. فالمسؤولون في منطقة القصيم والشؤون البلدية والقروية يقدرون أهمية منطقة الغضا بالنسبة للمواطن هناك، ولا يمكن إلا أن يكونوا في صفه وإلى جانب رغبته. ولكن الذي نخشاه على الغضا، هو الجفاف وندرة المياه التي يوفرها المطر بإذن الله. فمن طبيعة شجر الغضا أنه كان ولا يزال يعيش على ما تمده به مياه الأمطار. وقد كانت المياه الجوفية قبل سنوات قليلة قريبة من سطح الأرض وفي متناول جذور أشجار الغضا. ومع شح نزول المطر في السنوات الأخيرة أصبح الماء أكثر عمقًا، وربما أن الجذور لا تستطيع الوصول إليه إلا في مواسم الأمطار، وهي قليلة. ولذلك نشاهد شحوبًا واضحًا في مظهر الكثير من أشجار الغضاء الذي كان إلى عهد قريب يميل طول السنة إلى الخضرة. وإذا لم نجد طريقة مناسبة ومتهيئة لري ولو نسبة معينة من الأشجار، فإنها ربما تفقد الحياة لا قدر الله. ونحن نهيب بالمختصين والمتخصصين أن ينظروا إلى الموضوع بجدية واهتمام قبل أن تطول يد الجفاف هذه الشجيرات المباركة ونفقدها إلى الأبد. ولعله من نافلة القول أن نذكر أن الاهتمام بكل ما يتعلق بحماية البيئة بوجه عام هو من صلب اهتمام ولاة الأمر- حفظهم الله.
ولعلنا نختم الحديث ببيت الشعر الذي قاله الشاعر مالك بن الريب ضمن قصيدة طويلة:
أَلا لَيتَ شِعري هَل أَبيتَنَّ لَيلَةً
بِجَنبِ الغَضا أُزجي القِلاصَ النَّواجِيا
(أُزجي): أسوق
(القلاص): نوع من الإبل، خاصة النياق الشابة
(النواجيا): السريعة

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي