الحرب على غزة .. وأزمة الهوية

لم يمر في التاريخ العربي المعاصر أزمة هوية كما هي عليه الحال. وإذا كانت الأوضاع هي نتاج سلسلة من الأحداث والقرارات فلا يسع المتتبع لتاريخ الصراع العربي الإسرائيلي إلا أن يدرك تلك الأخطاء الفادحة التي وقعت فيها الأنظمة العربية؛ التي أدت إلى هذا الوضع المزري الذي تعيشه الأمة الذي اختلط فيه الحابل بالنابل وتبدلت فيه القيم؛ فما كان مرفوضا أصبح مقبولا والعكس صحيح حتى أفرز صراعات عربية عربية، بل حتى خلافات فلسطينية فلسطينية! ومع أن وجود عدو مشترك كان من المفترض أن يوحد الرؤية ويحقق الإجماع، إلا أنه في القضية الفلسطينية اختلف العرب في الحرب كما اختلفوا في السلم. والسبب الرئيس أن الشعوب العربية مغلوبة على أمرها يتم تسييرها بشعارات سياسية عاطفية جوفاء وتارة أخرى بالاضطهاد باسم الوطنية والقومية "فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة" ليكون المواطن العربي متفرجا يساق سوقا بإرادة مسلوبة. لقد أوهم العسكر الذين جاؤوا لسدة الحكم على ظهر الدبابة أنهم المخلص للشعوب العربية خاصة بعد فترة الاستعمار الأجنبي. وبلغ بهم العجب وتلبسهم شعور بالعظمة أن تحدثوا في خطبهم الرنانة كذبا وتدليسا أنهم سيرمون إسرائيل في البحر! حتى حلت هزيمة 67 وانكشف زيف تلك القيادات الصوتية واتضح ما تعانيه تلك الأنظمة من فساد وتردٍّ. لقد ضخم الإعلام دور تلك الجمهوريات القمعية في حروب التحرير والصمود والتصدي كما أسموها وهم الذين في عهدهم زادت مساحة الدولة الصهيونية أضعاف عما كانت عليه من قبل توليهم الحكم. وعندما يتم التلاعب بالهوية القومية والعزف على أوتارها فقط من أجل الحكم والسيطرة تكون النتيجة هزيمة نكراء وخيبة أمل.
لقد استغلت إسرائيل هذا التشرذم والضعف السياسي العربي واستطاعت تكوين ثقافة تدعو للسلام وهو في حقيقتها فرض واقع جديد يستسلم فيه العرب ويسلمون بشكل قطعي بالكيان الصهيوني كدولة جارة يمكن التعايش معها حتى سموه سلام الشجعان! لقد انقلبت المفاهيم رأسا على عقب فسموا الدفاع عن النفس وتحرير الأرض من المغتصب إرهابا. وهكذا أصبح لإسرائيل كدولة محتلة حق الدفاع وحماية مواطنيها، بينما يعتبر مقاتلو حماس شرذمة من الشباب المتهور لا يتحلون بضبط النفس ويعملون عكس التيار العام في الوطن العربي. فالضعف العربي لم يعد يحتمل حتى مجرد الحديث عن قيم مثل مواجهة المحتل والوقوف في وجهه. لكن الاحتلال لا يزول بالمفاوضات؛ لأنها لم ولن تجدي نفعا، والتجربة الطويلة والاتفاقات والمعاهدات التي وقعت مع إسرائيل شاهد على ذلك. إذ إنها لم تطبق كما تم الاتفاق عليه ولم تصل بالعرب إلى مبتغاهم وهو تحرير القدس الشريف. لقد انشغل العرب واستغرقتهم المباحثات الجانبية وأصبحوا يتردون من مستوى تفاوضي إلى أقل حتى ضاقت دائرة الخيارات المتاحة لهم واستحكمت إسرائيل بالوضع وبدا أن قدر الأمة السير في طريق مسدود لا رجعت فيه. وللخروج من هذا المأزق والإحباط كان لا بد من إيجاد ثقافة جديدة ترتكز على قبول الوضع الراهن كأفضل خيار للاشيء! ومع هذا الخيار أضاعت الأمة أهم مكتسباتها وجوهر كينونتها وهي هويتها. لأنها لن تقوى على عمل شيء وهي دون هوية وعقيدة متجذرة وقيم راسخة في الوجدان والأذهان وفي القرارات. لقد أصبحت قضية البقاء وقبول الحد الأدنى المطلب وكأنما لسان حال الأنظمة العربية إذا مت عطشانا فلا نزل القطر؛ أي نفسي نفسي فالكل منشغل بقضاياه ومشاكله الوطنية. إنه وضع صعب تواجهه الدول العربية فليس هناك خيارات متاحة لتجد نفسها مضطرة لاتخاذ قرارات اضطرارية في ظروف صعبة للغاية من غير اقتناع وبردات فعل آنية غير مدروسة وربما كانت ضد مصالحها الوطنية على المدى الطويل، وهكذا تدخل في دوامة من المصاعب والتحديات التي تزيد الأوضاع تعقيدا وصعوبة ليس لها آخر.
إن الحرب على غزة والموقف المشرف للمقاومة الفلسطينية في الوقوف في وجه العدو ربما كان فرصة لخروج الأمة من نفق وهم السلام مع إسرائيل وكسر الحاجز النفسي والثقافي الذي سيطر عليها خلال العقود الأربعة الماضية. وهي في الوقت نفسه أوراق يمكن الضغط فيها على إسرائيل لتعلم أن عليها إنفاذ معاهدات السلام وإلا أنها ستواجه خطر الحرب. الحرب على غزة هي استكمال لمهمة تدمير العزيمة وتعزيز روح الاستسلام وتضييق الخناق على الفلسطينيين إلى أبعد الحدود ليرحلوا من ديارهم. والدليل أن ما تقوم به إسرائيل ليس دفاعا عن النفس، ولكن قتل جماعي وتدمير للبنية التحتية وهدم للبيوت والمساجد والمدارس. ما تقوم به إسرائيل هو جرائم حرب ترتكب ضد مدنيين لا حول لهم ولا قوة أمام مرأى ومسمع العرب والعالم المتحضر، ولكن لم يتحركوا لوقف هذه المأساة الإنسانية والجريمة النكراء لأن فاقد الشيء لا يعطيه. فالعرب دون هوية ودون انتماء لمشترك عقدي همهم المكاسب السياسية الآنية الضيقة، وهكذا تم تحييدهم في الحرب الدائرة. إنها أزمة هوية!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي