Author

شغف الحياة المفقود

|
ما حصل في حادثة شرورة من مصيبة فجعتنا في قتل رجال الأمن الأبطال، لا يختلف ــ في نظر الآية الكريمة ــ عمن يفسد وينهب "من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا". كلا الأمرين في حكم الآية الكريمة بمنتهى الإجرام والفظاعة: القتل المتعمد والفساد في الأرض وتشبيه الأمرين بقتل الناس جميعا تشبيه مؤثر للغاية لمن يحاول أن يرى المشهد كاملا، فالقتل شأن متعد ليس على المقتول وحده بل على عائلة تيتمت وامرأة ترملت وقد يمتد الأثر بالعائلة طويلا (فكأنما قتل الناس جميعا)، والفساد يقتل بالجملة والآلاف بل قد يصل الملايين، وآثاره التراكمية تقضي على أعداد كبيرة وعائلات أكبر فيصبح قاتلا فعليا للناس جميعا. مؤسف أنه لم يزل مسلسل العنف مستمرا في بلادنا وإن كان بصورة أقل، لكن فكر الجهاد القتالي الذي يكفّر المسلمين ما زال موجودا معتديا على حياة رجال الأمن فتتيتم أسرهم وتترمل نساؤهم لأن شابا طائشا "اقتنع" بشكل ما أن هذا جهاد باحث عن شغف آخر لم يذقه في حياته. ليس سبب التشدد وحده هو وجود من يُفتي لهؤلاء، بل هي قبل أن يكبر ذلك الشاب وقبل أن يعرف هؤلاء المفتين. مسؤولية وجود هذا العنف حتى اليوم مسؤوليتنا جميعا من جهات مسؤولة ومجتمع في ملء هذا الفراغ الهائل الذي أمكن للغير تعبئته بالفكر الضال والجهل والعنف والاعتداء على حرمة دم المسلم، وعلى مر سنوات عانت فيها المملكة من عنف الإرهابيين فافتتحت مراكز الأبحاث والمؤتمرات لدراسة الأسباب والوقاية منها، إلا إن الخطوة الوحيدة التي لمسناها هي تغيير المناهج وإضافة منهج التربية الوطنية لكن المسألة لا تقف عند منهج وكتاب يُقرأ و يرمى. اشتهرت مقولة عظيمة تقول: "تأكد أن هناك شيئا ما لا يستطيع أحد في العالم أن يتقنه كما تفعل أنت .. احرص ألا تترك الدنيا إلا وقد فعلته" هذه الفكرة وحدها تمكّن الإنسان من أن يعيش ويبذل حياته لها بشغف وهي تبدأ من الصغر وحياة المدرسة والأسرة فيعيش الطفل بداية سنواته حتى يشب وهو يكتشف دوره في الحياة ولا يستطيع أبدا أن يكتشف ما لم تكن الخيارات متعددة ومتاحة ومتنوعة جدا من جهات عديدة ومؤسسات مجتمع بأدوار تتكامل لا تكتفي أبدا بالمدرسة والبيت. إذا كان مصطلح "جودة الحياة" الإنجليزي يقاس بكيفية قضاء الفرد وقت فراغه من هوايات، فإن هذا يفترض بداهة أن الفرد لديه أعمالا كثيرة ومسؤوليات يملأ بها وقته، وعندما يحين وقت فراغه يختار ما يشاء، لا أن تكون حياته فارغة من المعنى تتوق لنعيم الآخرة لأنها لا تعرف أن تذوق نعيم الدنيا بالشغف والحب والعلم والعمل والفن والبناء. وعلى ضراوة قصف إسرائيل هذه الأيام لغزة، إلا أنه أخف وطأة على العقل والمنطق من تناحر العرب بينهم وبين بعضهم في سورية والعراق، وقتل المسلمين والعرب بعضهم بعضا، واليأس كل اليأس أن يقتل أبناء الوطن الواحد بعضهم بعضا. يقول الشيخ محمد راتب النابلسي إن لفظة "الجنة" في القرآن جاءت معرّفة بأل التعريف، ذلك لأننا نذوق (نعرف) شيئا منها في الدنيا فأينا يفتش عن جنته في الدنيا؟
إنشرها