افعل بحيث يكون فعلك قانونا عاما

إن الباحث في الفلسفة الأخلاقية لا يمكنه أن يتجاوز محطة الأنوار مع الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط خلال القرن الثامن عشر، فهو مطالب بأن يقطن ردحا من الوقت معه، إذ يقال: يمكن أن تختلف مع كانط، لكن لن تستطيع التفكير دونه.
لقد كان أكبر هم كانط هو المسألة الأخلاقية، فهو كان يبحث عن مبادئ عامة توحد المقاييس الأخلاقية، بحيث تجد البشرية دربها الآمن للتعايش والسلم دونما عنف، تراه العين كل يوم، وحينما تأمل كانط الأمر، اكتشف أن الاعتماد على العاطفة والوجدان والانتماء التاريخي، أي تلك المكتسبات القادمة من التاريخ والمترسبة في جوف الإنسان، لا تحل القضية الأخلاقية نهائيا، بل هي التي تسقط أحيانا الإنسان في الشر، لأنها باختصار متضاربة وتؤدي إلى التطاحن والتقاتل، وما الحروب باسم الدين أو باسم العرق أو المذهب إلا مؤشرات ذلك، فالعاطفة لا تأتي منها إلا الحماسة والاندفاع، فهي تغمض البصيرة وتعمي الحكمة. الأمر الذي دفع كانط إلى الاتجاه صوب العقل معتبرا إياه "أعدل قسمة بين الناس توزيعا" كما سبق إلى ذلك الفيلسوف ديكارت. ومن ثم ما على البشرية إلا التنقيب على بعض القواعد العقلية التي يمكن الارتكان إليها وبوضوح تام وتكون لها صفة المشترك والقبول عند كل حس سليم. فما هي هذه القواعد الأخلاقية الكانطية التي تعد الإنسان بالتوافق عوض التضارب؟

#2#

إن الواجب الخالي من المنفعة والبعيد عن العاطفة والوجدان والذي يسمح للإرادة الطيبة بالظهور في كامل نقائها لن يكون كذلك، إلا إذا استند إلى قواعد عقلية صارمة واجبة الاحترام والتقدير، هي بمثابة أوامر مطلقة وكونية وغير مشروطة. هذه القواعد يكفي لإدراكها أن تطرح السؤال على نفسك: هل يمكن أن ترغب في أن تغدو قانونا كليا؟ إذا لم تكن ترغب فانبذ هذه القاعدة. فأي تشريع للقانون الأخلاقي يفتقد للشمولية فهو لا أخلاقي. ويمكن حصر هذه القواعد الكونية في ثلاث وهي: قاعدة التعميم وقاعدة الغائية وقاعدة الحرية. ولنقف عند القاعدة الأولى:
• قاعدة التعميم
يعتبر كانط هذه القاعدة بمثابة القانون الأساسي للأخلاق ويمكن صياغتها كما وردت عنده في كتابه نقد العقل العملي كالتالي: "افعل بحيث يمكن لمسلمة إرادتك أن تصح دائما وفي الوقت نفسه مبدأ تشريع عام" بعبارة أخرى ونحن نسلك في الحياة لن يكون فعلنا فعلا أخلاقيا، إلا إذا كان له صبغة القانون العام، أي أن ما يمسني يجب أن يمس الآخرين، بعبارة أخرى علي الحرص وأنا أسير في الحياة ألا أجعل من نفسي استثناء في التشريع، وأن أقحم نفسي ضمن القانون المشرع. وهنا بالضبط صلاحية العقل وقدرته على توحيد المعيار نحو الفضيلة والخير. يقول كانط: " بإمكان العقل الأكثر انتشارا (بين البشر) أن يميز من دون تلقي توجيه ، الصورة التي تجعل المسلمة صالحة لتشريع شامل عن تلك التي لا تصلح، فهب مثلا أنني جعلت لي مسلمة أن أنمي ثروتي بكل الوسائل المضمونة، والآن لدي بين يدي وديعة توفي صاحبها ولم يترك قيدا فيها. هذه طبعا حالة لمسلمتي. الآن أريد فقط أن أعرف: هل يمكن أن تصلح تلك المسلمة لأن تكون أيضا قانونا شاملا، ويكون علي حينئذ أن أطبقها على الحالة التي أمامي وأسأل هل بالإمكان أن تأخذ فعلا صورة قانون، وهل أستطيع بالتالي أن أعطي في الوقت نفسه عبر مسلمتي قانونا كهذا: يحق لكل إنسان أن ينكر وديعة ليس بوسع أحد أن يثبت إيداعها. هنا أدرك على الفور أن مبدأ كهذا بوصفه قانونا، سيلغي هو نفسه بنفسه، لأن النتيجة عنه ستكون القضاء على وجود كل وديعة".
إذن لكي يحظى السلوك بسمة الأخلاقية يجب حسب كانط: "أن يثبت جدارته لإعطاء قانون شامل" بمعنى أن الحدود الفاصلة بين الأخلاقي واللأخلاقي تعود فقط إلى الشمولية والعمومية. فمثلا قد أمتنع عن مساعدة الآخر، كمسلمة لإرادتي، لكن حين أتصور نفسي في وضع من يحتاج إلى مساعدة من طرف الآخر، كأن أكون في لحظة غرق مثلا، فإنني لن أستطيع أن أمنع غيري من مساعدتي. وهو ما يجعل مساعدة الآخر أمرا أخلاقيا وواجبا وإلا ستتناقض الإرادة مع نفسها والتناقض ضد العقل، فالعقل إذن هو المعول عليه في ضبط الفعل الأخلاقي، فقد أجد نفسي في ورطة وليس أمامي للخروج منها إلا الكذب، لكن وبينما أردت لنفسي الكذب فإنني لا أرى أن يصبح ذلك قانونا عاما، لأني ببساطة لا أريد أن يكذب علي الآخرون، وبذلك يناقض المرء نفسه، إذن لا ينبغي علي الكذب ولو كان الأمر في صالحي.
تجدر الإشارة إلى أن كانط يفرق بين قاعدة التعميم وتلك القاعدة التي يصفها بالتافهة القائلة "لا تفعل ما لا تريد أن يفعل بك" فهذه الأخيرة ليست قانونا أخلاقيا لأنه قد "لا أعطي المعونة ولا أطلب المعونة" في حين أن المعونة ومساعدة الغير واجب أخلاقي، إنها قاعدة تنطلق من حب الذات وحب الذات ليس معيارا آمنا للخير.
إننا نعيش في كثير من الأحيان صراع إقدام وإحجام بين الرغبة والأمر الأخلاقي، فقد أجد ملايين وأحار في أخذها أم لا. وهل أخذها سلوك أخلاقي؟ فتنطلق الرغبة والميولات في الحراك فتسوغ للإرادة أخذها تحت دعوى مثلا أنها هبة سماوية ستفك ضائقتي أو أن صاحبها مفقود أو إلى آخره من التضليلات، هنا بالضبط يجب على العقل أن يتدخل وفق القانون العام، فهب أن صاحب هذه الملايين قد جمعها درهما درهما من أجل عملية جراحية مصيرية لأمه، فهل أقبل أن أكون مكانه وتؤخذ لي أموالي، أكيد الجواب سيكون لا، إذن وقع تناقض والتناقض لا عقلي، لقد حسم الأمر الآن، فسلوكي إن أخذت المال لا أخلاقي، فالعقل قد قطع الطريق على الرغبة وسد عليها ما يمكن أن تخدع به الإرادة الطيبة.
نفهم إذن أن الأخلاق ضد الطبيعة الإنسانية وتأخذ منك أكثر مما تعطيك، فلا أرباح مادية معها، فقد أخذ الملايين إلى الشرطة مع شاهد واحتفظ بالمحضر معي بل سأسعى جاهدا كي يصل المال إلى صاحبه، بحيث أساعد الشرطة على عملها بأن أضع المحضر لدى الجرائد المحلية المتاحة وأدفع التكاليف من جيبي، وأغادر دون رجعة وأنسى الأمر مطلقا، بهذا سأكون قد أديت الواجب الأخلاقي دون انتظار الجزاء اللهم إحساسي بالنبل الإنساني في جوفي وهو إحساس لا يباع ولا يشترى ولا يقوم بسعر.
إن المشروع الكانطي الأخلاقي مثالي، أي جاء ليذكر الإنسان بصعوبة الفعل الأخلاقي فهو صعب التحقق، والقليل من البشر من يفلحون في إنجازه، فالأخلاق عند كانط اجتهاد ومواجهة دائمة ضد الطبيعة الإنسانية، وقلما نخرج رابحين، بل غالبا ما تهزمنا الرغبة، إن الأخلاق نضال وعمل فيه المكابدة والمجاهدة، لأنك تسعى نحو الخير المطلق القابع في جوفك، هذا الخير هو مكبل ومقيد ومحاصر بالأهواء التي تزيغ وتروغ بك عن الجادة، ولا خلاص إلا أن تسير بإرادتك مسلحا ببوصلة العقل فهو كالضوء المنير الذي يضعنا في الطريق القويم وهيهات لنا أن ننصاع له، فغلبة الغريزة أقوى بكثير، فكم نحن مطالبون بالتواضع وعدم الادعاء في كل لحظة وفي كل سلوك أننا أخلاقيون، فالأمر ليس بالسهولة التي قد يعتقدها بادئ الرأي.
*أستاذ مادة الفلسفة/ المغرب

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي