الأبعاد الثقافية للدول بمنظور اجتماعي
من ضمن المواد الدراسية التي درستها في الفصل الحالي في مرحلة الدكتوراه كمطلب أساسي وثري لطلاب الدراسات العليا غير الماليزيين في الجامعة التكنولوجية الماليزية UTM مادة الثقافة الماليزية Malaysian Culture والتي تهدف إلى تعريف الطلاب بتاريخ ولغة وثقافة الشعب الماليزي ومكوناته ومبادئه الأساسية التي يقوم عليها. ومن بين المواضيع الأساسية التي تتطرق لها المادة موضوع أبعاد الثقافة الوطنية وأبعاد ثقافة المنظمات للمفكر الهولندي المهندس جيرت هوفستيد.
وموضوع ثقافة المجتمعات والمنظمات يعتبر من المواضيع الرئيسة في البنية الثقافية للدول، وهي من ركائز إدارة الأعمال الدولية تساهم في التعرف على الاختلافات الثقافية بين دول العالم وفهم سلوكيات شعوبها في جميع نواحي الحياة.
وقد عرَّف هوفستيد الثقافة (Culture) بأنها "الخصائص والقيم المشتركة التي تميِّز مجموعة من الأفراد عن المجموعات الأخرى"، وتضم أربعة عناصر كمكونات رئيسة لتحديدها، وهي كما يلي:
1. الرموز symbols وتشمل اللغة اللفظية واللباس وجميع المظاهر التي تساهم في تعزيز ولاء الفرد للجماعة التي ينتمي إليها.
2. الشخصيات الوطنية Heroes وهم الذين يتخذهم المجتمع قدوة للأجيال يقتدون بهم ويتعلمون منهم.
3. الطقوس Rituals وتشمل المظاهر الدينية والعقدية والاجتماعية التي تعبر عن اعتقادات الجماعة.
4. القيم Values وهي الجانب الخفي من الثقافة الذي لا يستنتج إلا من خلال سلوك الأفراد ومفاهيمهم، وهي تشكِّل جانبا واحدا فقط من جوانب الثقافة المختلفة.
وقد استطاع هوفستيد الوصول إلى نظريته "أبعاد الثقافة الوطنية" انطلاقاً من اعتقاده بعدم وجود نظرية إدارية عالمية واحدة تصلح لجميع المؤسسات في كل زمان ومكان، وأن الإدارة عنده لا يمكن فصلها عن ثقافة المجتمع وهي ذات علاقة بالدين والمعتقدات والتقاليد والقيم. وقد خرج بنظريته كنتيجة لبحث علمي معمق أجراه بين عامي 1978م و1983م على العاملين في كافة فروع شركة "آي بي إم" (IBM) وكانوا آنذاك يمثلون ثلاثاً وخمسين دولة من مختلف دول العالم، وقد توصل نتيجةً لتحليل إجابات استبيان لأكثر من 117,000 موظف إلى تحديد أربعة أبعاد رئيسة يمكن من خلالها تحليل المعالم الثقافية لمختلف الشعوب في ضوء الأنماط الأكثر أهمية في طريقة التفكير، والإحساس الداخلي، والتصرف. وهذه الأبعاد هي كالتالي:
البعد الأول: فارق القوى power distance
وبعضهم يطلق عليه البعد السلطوي ويطلق عليه آخرون قوة التسلسل الهرمي الاجتماعي، وهو التباعد الطبقي بين أفراد المجتمع والفوارق بينهم، ومدى قبول المجتمع لهذا التباعد، والتوزيع غير المتساوي، والرضا بالطبقية. وعلى هذا النحو فإن هذا المؤشر لا يعكس اختلافًا موضوعيًا في توزيع القوة، ولكن يعكس طريقة إدراك الأشخاص لفوارق السلطة.
البعد الثاني: الفردية بخلاف الجماعية individuality /collectivity
ويقصد به مدى مستوى ثقافة الأفراد داخل المجتمع وتصورهم تجاه العمل الجماعي. ويشير هذا البعد بوضوح لمدى ما يحملونه من حب الذات والانكفاء عليها والاهتمام بالإنجازات والنجاحات الشخصية دون الاهتمام بالآخرين والحرص عليهم والانتماء للمجتمع الذي يعيش فيه سواءً كبر أو صغر، وهنا تصبح الأهداف والمصالح الشخصية هي أولا وقبل الجماعة مع تقديس الخصوصية والآراء الشخصية.
البعد الثالث: الذكورية بخلاف الأنثوية muscularity / femininity
والذي يعكس الدرجة التي يتلاءم بها السلوك والممارسات مع نظم القيم في سياق الذكورية ضد الأنثوية. ويحدد هذا البعد -حسب وجهة نظر هوفستيد- ما إذا كان المجتمع يمنح النساء أدوارا أكبر في المجالات القيادية العليا أم لا؟ ولذلك فإن الدرجة العالية تدل على أن ثقافة المجتمع السائدة هي ذكورية الثقافة والممارسات وبالتالي يتسم بالحزم والتنافسية. وأما الدرجة المتدنية فتعني أن ثقافة المجتمع تتجه إلى الثقافة الأنثوية التي تمثل نوعاً من الليونة ومنح النساء أدواراً أكبر. ويشير هذا البعد إلى دور الإنسان بجنسيه في المجتمع وليس إلى الخصائص الجسدية التي تفرق بين الرجل والمرأة.
رابعاً: تجنب المجهول uncertainty avoidance
ويقصد به إلى أي مدى يتعامل الأفراد في مواجهة المستقبل والمجهول غير المؤكد؟ بمعنى هل يميل الأفراد نحو المخاطرة والمغامرة واتخاذ القرارات في حالات عدم التأكد؟ وهذا البعد له علاقة مع طريقة تصور المجتمع ومدى استعداده للسيطرة عليه والتفاعل معه والتأثير فيه بوضع القوانين والإجراءات الصارمة، مع تحليل وضع ثقافة المجتمع القلقة تجاه غموض المستقبل. وهذا البعد يتضح فيه أثر صحة الاعتقاد الجازم بالغيب من عدمه على سلوك أفراد المجتمع.
هذا ونتيجةً لاستمرار هوفستيد لاحقاً في المزيد من البحث العلمي في هذا المجال مع باحثين صينيين من هونغ كونغ أضاف بعداً خامساً ألا وهو التوجه طويل المدى، ثم أيضاً أضاف هوفستد أخيرا بعداً سادساً أطلق عليه: الاسترسال مقابل ضبط النفس.
والجميل في هذا الجهد الإبداعي الضخم هو تحويل هذه الأبعاد إلى قياس كمي بالأرقام من 0 إلى 100، ورسمها بيانياً لجميع الدول التي أجرى عليها البحث لتسهل مقارنتها ودراسة الفروق بينها في ضوء هذه الأبعاد الثقافية.
ومن بين الدول التي أجرى عليها الاستبيان وتحليل النتائج ورصد مستواها وفق الأبعاد الأربعة في الدراسة الأصلية سبع دول عربية منها أربع دول خليجية وهي السعودية والكويت والإمارات والبحرين وثلاث دول عربية وهي العراق ولبنان وليبيا، ونظراً لأهمية هذه الدول - حسب رأي هوفستيد - أفرد نتائجها بمزيد من التحليل في كتاب خاص أسماه: "الفكر العربي".
ومن خلال الموقع الإلكتروني للبروفيسور جيرت هوفستيد Gert Hofstede يمكنك الحصول مباشرة على قيم الأبعاد الثقافية لأي الدول المشاركة في الاستبيان ومن ضمنها السعودية والتي حصلت على النتائج التالية: بعد فارق القوى 95 درجة والمتوسط العالمي هو 55، بعد الفردية حصلت على 25 درجة والمتوسط هو 43، وبعد الذكورية 60 درجة والمتوسط هو 50، وبعد تجنب المجهول 80 والمتوسط العالمي 64.
وفي وجهة نظري، إن كثيراً من الأهداف النبيلة التي يتم السعي لها تصطدم بالثقافة المجتمعية والتي تكون لها عائقاً أمام الوصول للنجاحات المطلوبة، ولذلك فمحاولة فهم الثقافة الوطنية فهماً دقيقاً والتعامل معها بما يناسبها قد يكون الطريق الأسرع والأشد فاعلية في تغييرها. وجهد البروفيسور هوفستيد هو جهد بشري يصيب ويخطئ يستلزم من المختصين والمهتمين في أمتنا المباركة - وهم كثر ولله الحمد - في هذا الجانب المهم دراسة هذه النظرية وتقييمها والاستفادة منها بما يمكن الاستفادة منها ولا يخالف ثوابتنا الشرعية فالحكمة ضالة المؤمن.