الأخلاق تؤتى عن واجب وليست وفق الواجب

إن لفظة الواجب طاغية في الاستعمال اليومي، فنتحدث مثلا عن الواجبات الدينية والعملية والمدرسية ... وسؤالنا في هذا المقال هو متى يمكن الحكم على أن ﮪﺫا الواجب له صبغة الأخلاق؟ بعبارة أخرى هل يكفي أن تقوم بواجب معين في مجال ما، لتعلن أنك قمت بعمل يدخل في خانة الأخلاق؟ أليس المرء منا يذهب صباحا لعمله ويجتهد كل الاجتهاد اللازم، فيدرك وبتأمل بسيط، أنه لم يفعل ﺫلك لأن الجهد مطلب في ذاته، بل لأنه ينتظر الثناء أو الترقية في الشغل أو أشياء أخرى، فأعمالنا مرهونة بشروط ومحكومة بما بعدها من أرباح أو خسائر... الغالبية العظمى من السلوكات الإنسانية لا تؤتى عن واجب ولكن تؤتى وفق الواجب وهي التفرقة الشهيرة عند الفيلسوف إيمانويل كانط فهو يؤكد على أن الأخلاق تأخذ منا أكثر مما تعطينا.
يلزم كي يكون الفعل أخلاقيا حسب كانط أن يؤتى عن إرادة طيبة وكي تكون الإرادة طيبة وجب أن يكون الفعل خلوا من كل منفعة وخالصا من كل شوائب المادة, باختصار الفعل الأخلاقي الحقيقي يؤتى عن واجب وليس وفق الواجب.

#2#

إن إرادة الإنسان تواجه ظروفا ومواقف تحد من خيريتها، فالرغبات والميول والمصالح كلها أمور تمنع الخير من الظهور كليا، بل قد يتصرف المرء معتقدا أنه أخلاقي ولكن البحث العميق يثبت أنه كان يخدم مصلحته لا أقل ولا أكثر، فكم من مرة نخدع أنفسنا ونبرر لها سلوكها ونحن غارقون في وحل الغريزة. فهكذا هو الإنسان سهل عليه الانقياد وراء اللذة، ففي غالب الأحيان تكون السبب الأصلي في تعيين الإرادة .يقول كانط: "يستطيع إنسان هو بعينه أن يرجع كتابا مفيدا من دون أن يقرأه، وهو على علم بأنه لن يستطيع استعارته مرة ثانية، كيلا يفوته صيد، يستطيع أن يغادر المكان في منتصف خطاب جميل، كيلا يتأخر عن وجبة طعام، يستطيع أن يخرج من جلسة تدور فيها أحاديث ثقافية من عادته أن يقيمها عاليا، لكي يجلس إلى طاولة الميسر، لا بل يستطيع أن يرد فقيرا كان يسر بالإحسان إليه، بحجة أن ليس لديه من نقود إلا ما يلزم لدفع بطاقة الدخول إلى مسرحية هزلية". ويستطرد فيقول في الإنسان إن "الشيء الوحيد الذي يعنيه لكي يقرر خياره هو مدى شدة وطول ويسر الحصول على هذه النعمة وكثرة تكرارها ... وعظم المتع التي ستوفرها له لأطول مدة من الزمن". ومادام كل ماهو تجريبي حسي يشوش على ظهور الإرادة الطيبة، فالفعل الأخلاقي عند كانط هو ذلك الفعل الذي أعصب عيني فيه من كل جزاء يمكن أن يترتب عليه وأزهد في كل منفعة قد تأتيني منه، وألغي كل رغبة أو أمل قد يتحقق من ورائه ولا أقدم على الفعل إلا لأني أجد أنه فعل صحيح وحق في ذاته. فإذا وهبت المال لمؤسسة خيرية بغرض زيادة شعبيتي بين أصدقائي، أكون آنذاك قد تصرفت تصرفا بعيدا عن الأخلاق، بل بغرض اكتساب مكانة اجتماعية، لا أقل ولا أكثر، بل حتى إذا ما نبع تصرفي من إحساس بالرحمة والشفقة تجاه الغير، فهو فعل لا أخلاقي لأنه يجب أن يكون واجبا خالصا. فالفعل في حد ذاته لا قيمة له أخلاقيا، فالقيمة تكمن في صفاء الدافع لأن تبعات الفعل تكون غالبا خارج نطاق السيطرة، ولهذا فهي ليست عاملا حاسما في مجال الأخلاق، فمثلا، إذا قمت أنا – بإحساس بالواجب – بإنقاذ طفل يغرق، ولكن هذا الطفل غرق على الرغم من محاولاتي، فإن فعلي يبقى أخلاقيا لأن دوافعي كانت صالحة: ومع أن تبعات فعلي هذا كانت كارثية، إلا أنها غير ذات صلة بالقيمة الأخلاقية لما قمت به.
إذن المحرك الأساسي لكل عمل يريد أن يكون خيرا مطلقا هو الواجب كغاية في ذاته. فإذا أخذت الحكمة التالية كمرشد لسلوكي: "ساعد المعوز دوما إن كنت تتوقع أن تجازى عن هذا"، أو "ساعد المعوز دوما حالما تشعر نحوه بالشفقة". فهما حكمتان لا أخلاقيتان والأخلاقي الوحيد هو أن تكون حكمتي كالتالي: "ساعد المعوز دوما لأن واجبك يدعوك إلى هذا".
إن الواجب الصافي والخالص عند كانط هو المعيار الوحيد لأخلاقية الأفعال، فهو الذي يسمح بإزالة أغلفة المادة عن الإرادة الطيبة وتركها تتجسد بكل لمعانها ونقائها بصرف النظر عن النتائج. هذا التصور هو ثورة أصيلة في التنظير الأخلاقي لأنه يقطع العلاقة مع التصور القديم الذي يركز على الغاية من السلوك كمصدر للأخلاقية وهل هي تفضي إلى اللذة والسعادة أم لا.
يفرق كانط بين ضربين من الأفعال، فهناك الفعل عن واجب وهناك الفعل وفق الواجب، الأول بمضمون أخلاقي والثاني مفرغ من الأخلاق، وهنا نضرب المثل الذي قدمه كانط: فأن يتعامل التاجر بأمانة لا يعني ولا يكفي تماما بأن نذهب إلى الاعتقاد بأنه قد صدر مسلكه هذا عن إيمان بالواجب وبمبادئ الأمانة، فقد تكون مصلحة كسب الزبون هي التي أملت عليه ذلك. من هذا المثال يبدو أنه لا يكفي أن يكون الفعل مطابقا في نتائجه لمبدأ الواجب بل يجب أن يصدر عن احترام للواجب، فالواجب وازعه داخلي دون اكتراث للنتائج سلبا أم إيجابا، فقد أعترف بزلة اقترفتها وأعرف أن النتائج وخيمة عليّ. وقد أسوق نفسي إلى العدالة لجرم ارتكبته وأنا كلي إدراك أن السجن ينتظرني. كما أني قد أقول الصدق بصرف النظر هل سأكسب الناس أم لا. فعبارة "كن صادقا" تكفي نفسها بنفسها فهي مطلقة مهما كانت الظروف، فالصدق مطلب لذاته دونما انتظار للمنافع المرجوة منه. أما عبارة كن صادقا، كي تكسب الناس فهي تؤدي إلى فعل شرطي مرتبط بالمصلحة والمنفعة لذلك فهي مفرغة من كل مضمون أخلاقي. ولمزيد من الفهم لنتأمل المثال الآخر التالي: لنتصور سيارتين متوقفتين في إشارة الضوء الأحمر، ولنعتبر السائق الأول يقف لأن الشرطي يراقب، فهنا سنقول إن سلوكه وفق الواجب وليس عن واجب لأنه يتحرك بوازع خارجي فهو يفعل برقابة الآخر، ويخشى دفع الغرامة. ولنعتبر السائق الثاني يقف سواء كان الشرطي أو لم يكن، هنا سنقول إن هذا السلوك عن واجب أي لذاته بعيدا عن ما يمكن أن يترتب عنه، إنه إملاء باطني.
إن السلوك حسب كانط يجب أن يكون عن واجب إذا ما أراد أن يكتسي طابع الأخلاقية، بمعنى أنه يجب أن يكون غير شرطي، أي أن يؤتى الفعل كأوامر مطلقة غير مرتبطة بالنتائج. أما السلوك الذي يكون وفق الواجب فهو لا يستحق الأخلاقية لأنه ممزوج بالأغراض والمصالح والرغبات.
لقد أراد كانط تجفيف منابع التجربة وسد الباب على كل الأهواء التي تمنع ظهور الإرادة الطيبة عنوان الخير المطلق.
وكي يتمكن من ذلك أكثر سيعمل على صياغة قواعد عقلية تسمح لمبدأ الواجب من التجسد بشكل صارم ودقيق يقطع الباب للمراوغة والخداع من طرف الرغبة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي