لماذا الاهتمام العالمي بكوريا الجنوبية؟
إن من مفاهيم إدارة الجودة الحديثة ما يسمى القياس المقارن Benchmarking أو ما يطلق عليه الاقتداء بالنماذج من خلال الاطلاع على أفضل الممارسات ومحاكاتها للوصول إلى مستوى أداء أفضل. والحكمة ضالة المؤمن يجب عليه أن يبحث عنها، وإن من أعظم الأمور التي تفتقدها البلدان الإسلامية في عصرنا الحاضر هو التقدم الحضاري والتطور التكنولوجي والنجاح الاقتصادي الذي يوجد لدى دول الشرق والغرب، والذي يستحق منا أمة الإسلام ويتوجب علينا دراسته والاطلاع عليه والاستفادة منه ونقله وامتلاكه. وبناءً على ذلك فإن الاطلاع على أفضل السياسات والتجارب الدولية المتقدمة وبالذات التي تمكنت خلال فترة وجيزة أن تمتلك التقنية بل وتصبح مرجعا فيها هو مطلب وضرورة ملحة. وهذا ما يتمثل بكل وضوح في دولة مثل كوريا الجنوبية، والتي أصبحت في الطليعة الدولية، فهي من أبرز الاقتصاديات العالمية التي حققت أعلى معدلات النمو الاقتصادي والتنمية بصورة هائلة ومطردة. فكوريا الجنوبية الكل يعرف ويستخدم منتجاتها العالمية، فالكل يعرف جوال سامسونج الأسطوري جالكسي، والكل يعرف سيارات هيونداي ذات النمو الأكبر في عالم السيارات، والكل يعرف الأجهزة الكهربائية من ثلاجات وشاشات وغسالات إل جي وسامسونج، وصناعات متقدمة وثقيلة مدنية وعسكرية.. إلى آخر القائمة الطويلة من المخرجات والمنتجات المبدعة للبلد، والتي أصبحت تحقق تقدماً هائلاً بين مثيلاتها.
وقد حاولت تقصي وتتبع وتحليل كوريا الجنوبية تقنياً واقتصادياً منذ سنتين قراءةً للأبحاث والمقالات والمراجع التي وصلت لأكثر من مائة مرجع، كما أنني اطلعت على بعض هذه المعالم في الزيارة الثرية لأعضاء مجلس الجودة السعودية في المنطقة الغربية، فوجدت أن معالم نجاح كوريا ينضوي تحت أربعة أسباب ومجالات جعلت من كوريا بلداً متقدماً في حاضرها ويتوقع أن تكون ذات مستقبل تكنولوجي أكثر إبهاراً وتأثيراً واستدامة واستقرارا. وهذه الأسباب والمجالات هي كالتالي:
1. اهتمام بالغ بالتعليم العام والجامعي المتميز
وينبع الاهتمام بالتعليم في كوريا من خلال قناعتهم المطلقة بأن التعليم سر نجاح الحضارات، كذلك تأثرهم واعتقادهم في الفلسفة الكونفوشيوسية كتقاليد قائمة في الحياة الاجتماعية للشعب الكوري أثر في ذلك، حيث تنظر الفلسفة الكونفوشيوسية إلى التعليم على أساس أنه المفتاح الوحيد للنجاح في المستقبل والحاضر. ولذلك يعرف عن الكوريين أنهم يولون التعليم اهتمامًا عظيمًا وأصبح له دور رئيس في نمو جمهورية كوريا الاقتصادي الذي حققته في العقود الثلاثة الماضية.
إن التعليم في كوريا الجنوبية يقف وراء تطويره جهاز متخصص هو المعهد الكوري للتطوير التربوي، ويحظى باهتمام حكومي كبير، فميزانية التعليم في كوريا 29 مليار دولار سنويًا أي أكثر من 20 في المائة من ميزانية الدولة السنوية وفق سياسات واستراتيجيات واضحة ومتميزة تحول بها التعليم في كوريا من مستويات عالية جداً في الأمية بعد انتهاء الاحتلال الياباني، حيث كانت نسبة الأمية 78 في المائة في الشعب الكوري، إلى أن وصل إلى القمة العالمية كماً ونوعاً. فنظام كوريا التعليمي يصنف بأنه أفضل نظام تعليمي في العالم كما في مؤشر The Learning Curve لعام 2014. وهذا المؤشر الحديث أخذ في الحسبان عدة تقارير عالمية من ضمنها التقرير العالمي لبرنامج التقييم الدولي للطلاب (PISA) التابع لمنظمة التعاون الاقتصادي والتنمية (OECD) والذي يحدد تصنيف الطلاب في مختلف دول العالم في القراءة والعلوم والرياضيات، وقد حصل طلاب كوريا في تصنيف عام 2012 على المرتبة الخامسة في الرياضيات والقراءة، والسابع في العلوم على مستوى العالم. هذا وتوجد في كوريا الجنوبية حاليا أكثر من 250 جامعة، ثلاث منها في أفضل مائة جامعة على العالم.
2. الاقتصاد الكوري يتميز بالنمو المستدام
على الرغم من الإرث الاستعماري الياباني لكوريا الجنوبية لأكثر من 35 عاما، والحرب الطاحنة مع الجارة كوريا الشمالية لمدة أربع سنوات تقريباً والتي الحقت دماراً واسعاً بالبنية التحتية والاقتصادية، إلا أن كوريا الجنوبية انطلقت في تجربتها التنموية ورحلتها النهضوية منذ عام 1962 م واستطاعت في أقل من أربعة عقود تحقيق مايسمى بـ "المعجزة الاقتصادية على نهر الهان كانغ" مقارنة بالدول ذات الاقتصاديات العظمى والتي أخذ بعضها ما بين قرنين من الزمان. وحالياً يعد اقتصادها الخامس عشر على العالم بنسبة نمو 6 في المائة وتخطط للوصول عام 2018 لأن تصبح الاقتصاد رقم 7 في العالم ونمو سنوي 7 في المائة. هذا وقد نجحت كوريا في الأزمة الاقتصادية العالمية التي ضربت اقتصاديات العالم أجمع منذ عام 2007 فسجلت خلال الانكماش الاقتصادي نموا ثابتاً 3 في المائة متعافية بشكل سريع متجنبة الركود بشكل كبير كما حصل لمختلف دول العالم، والذي كان نسبة التراجع العالمي في حجم التجارة العالمي 12.2 في المائة. وفي غضون ثلاثة عقود انتقلت كوريا من قائمة بلدان العالم الفقيرة إلى مصاف الدول الصناعية، ففي عام 1962 بلغ متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي 11 دولارًا إلى 35 ألف دولار. هذا وقد استطاعت كوريا تحقيق أول فائض في الميزان التجاري عام 1986م وبقيمة 4.2 مليار دولار إلى أن وصل إلى 12 ضعفاً تقريباً في عام 2010، حيث حققت كوريا فائضا في الميزان التجاري مقداره 48.4 مليار دولار. وتتميز كوريا بأمر لافت للنظر والعجب، فهي في سبيل تحقيق الأمن الغذائي أصبحت أكبر مشتر في العالم للأراضي الزراعية من دول مختلفة في أنحاء العالم.
3. النجاح العالمي للشركات الكورية وامتلاك التقنيات الصناعية الأساسية
في سبيل ارساء قاعدة قوية للتصنيع السريع الموجه للتصدير وتحقيق التنمية الاقتصادية فقد عملت الحكومة الكورية في مطلع الستينيات على تكوين مجموعة من المؤسسات الصناعية تسمى الـ Chaebol وقدمت لها التسهيلات الكبيرة والمزايا الائتمانية الكبيرة.
ونجحت الشركات الكورية مثل: هيونداي سامسونج في أن تصبح ضمن قائمة أكبر 100 شركة صناعية في العالم، ومن أولى الشركات في مجالات الصناعات غير التقليدية كصناعة السيارات والإلكترونيات لتكون ركنا أساسيا في بناء الاقتصاد الكوري في ضوء نجاحاتها الباهرة. وفي تقرير الابتكار العالمي لعام 2012 الذي تجريه شركة بوز آند كمباني Booz & Company جاءت "سامسونج" في المرتبة الرابعة بين الشركات الأكثر ابتكارا خلف "أبل"، و"جوجل"، وشركة 3 إم (3M)، كما أن شركة هيونداي هي الأكثر صعوداً في التصنيف بين شركات السيارات وحصلت على المركز الثاني متقدمة على شركة تويوتا.
4. الاهتمام بمنظومة البحث والتطوير وعملية التصميم الهندسي
إن استراتيجيات وأنشطة ومخرجات البحث والتطوير (R & D) هي أحد أهم المؤشرات التنموية للدول. وقد تميزت كوريا الجنوبية بالإنفاق العالي على منظومة البحث والتطوير مقارنة بالمعدل العالمي وقد وصل إلى معدل 3.45 في المائة من معدل الناتج المحلي الإجمالي (GDP) كأشهر المؤشرات المتعارف عليها. وقد ارتفع الإنفاق الكوري بشكل كبير من أربعة ملايين دولار في أوائل الستينات إلى 58 بليون دولار تقريباً في عام 2013. هذا وقد شرعت الحكومة في برنامجها الجديد الذي يطلق عليه 577 والذي يهدف إلى زيادة قدرتها نفقات البحث والتطوير إلى 5 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، لتصبح واحدة من أعلى 7 في العالم، من خلال التركيز على سبعة مجالات رئيسية.
كما أن اهتمامها بعملية التصميم الهندسي وزيادة عدد مهندسي التصميم الهندسي، الذي يعد أحد أبرز أسباب نقل التكنولوجيا. وقد حصلت شركة سامسونج على المركز الأول في ضوء معايير تصنيف IF للتصميم في معرض هانوفر الألماني السنوي الذي يعد أضخم المعارض الهندسية الدولية.
إن الأسباب الآنفة الذكر هي أبرز الأسباب التي أدت إلى استمرار "المعجزة الآسيوية" التي ربما تعد الأكثر إثارة للاهتمام الدولي وأشهر دول العصر الحاضر.. فيا ترى ما الدول الإسلامية والعربية التي تنقل التجربة الكورية وتستفيد منها لتلحق بالركب؟ هذا ما نرجوه ونأمله.. والله الموفق.