تفعيل المجالس النيابية .. لرؤية الصورة الكبرى
تحدثت في مقال الأسبوع الماضي عن أهمية رؤية الصورة الكبيرة، وعدم الاستغراق في الجزئيات؛ حتى ندرك الاتجاه العام وتكون الرؤية المستقبلية المشتركة واضحة المعالم وجهود العمل التنموي منسقة ومتسقة مع المصالح العليا للوطن. وبينت أن من أبرز مظاهر غياب الصورة الكبيرة في أذهان أصحاب القرار وعامة الناس، هو التفكك الإداري والترهل البيروقراطي، التشرذم الصناعي والاتكالية والتواكل لدى العموم وضعف العمل التطوعي والعمل التعاوني وقلة المبادرات التي تساهم في التنمية المحلية. وهنا يُطرح تساؤل في غاية الأهمية يدور في أذهان الكثيرين، وهو كيف يمكن تعزيز العمل الجمعي وإيجاد نظم تربط بين المدخلات والعمليات والمخرجات بحيث تقود وتوجه كافة الجهود نحو المصالح العليا للوطن؟ وبشكل أكثر دقة وتفصيلا ولا يخلو من التعجب والاستغراب أسوق تساؤلات بعث بها أحد القراء النابهين.. وهي لماذا تتصرف الجهات الحكومية بأسلوب انفرادي؟ لماذا تفضل تلك الجهات الإنجازات التي تخصها دون الأخذ بعين الاعتبار أهداف الخطط الوطنية؟ ما نتائج أداء الأجهزة الحكومية التي يمكن أن تعد إنجازاً؟ ما هو الإنجاز؟ وما هو تعريفه؟ هذه تساؤلات عميقة وحساسة لأنها تغوص في أعماق نظامنا الإداري الحكومي، وتتطلب جرأة في الطرح ومناقشة ما لم نعتد مناقشته، كما تستدعي مبادرة في إحداث تغييرات جذرية تتصل بإعادة النظر في نظام الإدارة العامة وتقييم أداء الأجهزة الحكومية بناء على ما تضيفه من قيمة اقتصادية واجتماعية.
إن التميز في الأداء ينطلق من المنافسة والمحاسبة، وهما أمران يكادان يكونان معدومين في القطاع العام. وقد يكون هذا هو ما نحتاجه لتطوير نظام إداري متكامل يتصف بالدقة وتحديد المسؤوليات والمهام، ويضع معايير صارمة ويطبق دون استثناء. وتتحقق المنافسة والمحاسبة في القطاع العام بفصل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية بحيث تراقب كل سلطة الأخرى مراقبة متوازنة تضمن ألا تستحوذ إحداها على حصة كبيرة من سلطة اتخاذ القرار أو أن تتفرد به كما هو حال البيروقراطيات العامة. فمن الملاحظ أن الأجهزة الحكومية والقائمين عليها يتمتعون بحصانة كاملة دون رقابة أو محاسبة من المجالس النيابية (مجلس الشورى، مجالس المناطق، المجالس المحلية، والبلدية) التي لا تملك حولا ولا قوة، وإنما سلطة استشارية، أغلب مواد نظامها تستفتح بالاقتراح وتنتهي بالتوصية. وبهذا الانفلات البيروقراطي (إن صح التعبير) مصحوبا بمركزية شديدة انكفأت في ظلها الأجهزة الحكومية على ذاتها، وتشرنقت بالإجراءات الإدارية المطولة التي هي في ظاهرها الحفاظ على الصالح العام، بينما في حقيقتها إضفاء مزيد من السلطة والتحكم وكسب الهيبة التي ربما أفضت إلى سوء الأداء أو حتى الفساد الإداري. وما يعزز هذا الوضع الثقافة الإدارية السائدة المفتونة بالتركيز على تطبيق الإجراءات دون الالتفات إلى الإنجاز والتأثير النهائي، حتى أصبح المسؤول ينعت بالكفاءة فقط؛ لكونه يهتم بإجراءات العمل دون محاولة التطوير والتحول بالجهاز الإداري إلى مستويات أعلى من الأداء، وتقديم خدمات جديدة بجودة عالية. ما يجب ملاحظته في هذا السياق أن الكفاءة لا تعني فقط ضبط العلاقة بين المدخلات والمخرجات؛ ولكن هناك ما هو أهم من ذلك وهو: هل الأهداف والمشاريع المنوي تحقيقها مطلوبة اجتماعيا؟ وهذا يجعلنا نعود مرة أخرى إلى صلب الموضوع، وهو النظر إلى الصورة الكبيرة، والتي لا يمكن إدراكها إلا بعين الجماعة، وهي لا تتحقق إلا من خلال المجالس النيابية التشريعية التي تمثل الناس وتعكس متطلباتهم وتطلعاتهم وأمنياتهم. فهي الوسيلة الناجعة والمؤسسية للتعبير عن آرائهم بطريقة سلمية وحضارية، ترتكز على النقاش والتحاور للوصول إلى صيغة توافقية تصنع القرار العام. إن من الخطأ الاعتقاد أن قرار تحديد الخدمات العامة وصناعة السياسات وصياغة التشريعات الحكومية هي فنية فقط؛ وبالتالي هي من اختصاص المسؤول البيروقراطي. إن القرار الحكومي يتضمن إضافة إلى الجانب الفني الجانب الاجتماعي، وهذا يعني أنه لا يكفي وضع المعايير الفنية للمشروعات والخدمات العامة، ولكن قبل ذلك ترتيب أولويات المجتمع وتحديد من يحصل على ماذا ومتى وأين؟ وجميعها أسئلة تتطلب إجابتها من قبل أعضاء المجالس النيابية كممثلين للناس. ومتى ما كان هناك إطار قيمي اجتماعي وأهداف استراتيجية وطنية أمكن وضع معايير لقياس الأداء الحكومي. فتقييم الأداء يحتاج إلى معايير ومؤشرات مرجعية فنية مبنية في المقام الأول على التوجهات العامة. هذا الأمر لا يتعلق بتطوير أداء كل جهاز حكومي على حدة، وإنما بنية تنظيمية تتكون من شبكة معقدة ومتداخلة تؤدي في نهاية المطاف إلى تحقيق الغايات العليا للوطن.
إن تفعيل المجالس النيابية سيعزز من دور المواطن في جهود التنمية، وهو أمر أساسي لنجاحها؛ بل إن المواطن هو المكمل لعمل الأجهزة الحكومية والعنصر المهم في رفع أدائها وخفض التكاليف العامة. على سبيل المثال عند التزام الناس النظام سيؤدي ذلك إلى رفع إنتاجية المجتمع وانضباطه، وتكامله في العمل التنموي وبناء القدرات المحلية. كما أن تفعيل المجالس النيابية، وإتاحة فرصة مشاركة المواطنين في صنع القرار من شأنه تطوير مفهوم الحكومة ودورها في المجتمع وإحداث ثقافة جديدة ترتكز على العلاقة الندية بين المواطن والأجهزة الحكومية بدلا من الاتكالية وانتظار أن تعمل الحكومة كل شيء. وفي المقابل نجد أن تفرد البيروقراطيات العامة بسلطة القرار وباتجاه واحد على مبدأ "ما أريكم إلا ما أرى" يجعلها تمارس عملها وسلطاتها فوق الناس وليس من أجل الناس. حتى أن الخدمات العامة في بعض الأحيان يمن بها الموظف على المواطن، ولا يعدها حقاً مكفولاً وفق النظام.
ونافلة القول: إن الصورة الكبيرة والأهداف العليا للوطن لا يمكن إدراكها إلا من خلال رؤية جماعية، وربط واع بين المدخلات والمخرجات، وهذا لا يتأتى إلا بتفعيل المجالس النيابية الوطنية والمناطقية والمحلية والبلدية ومنحها الصلاحيات الإدارية والمالية للقيام بأدوار تشريعية توجه وتتابع وتقيم وتحاسب الأجهزة الحكومية، والأهم أن تجعلها جميعا تعمل بتناغم وتكامل في إطار استراتيجي محدد المعالم.