معالم الجودة .. في التجربة الكورية
برزت كوريا الجنوبية في شرق آسيا كأحد النمور الآسيوية القوية والأسرع في النمو الاقتصادي العالمي خلال ربع قرن من الزمان. وتبلغ مساحتها نحو 100 ألف كيلومتر مربع فقط وعدد سكانها نحو 50 مليون نسمة. والغالبية العظمي من سكان كوريا الجنوبية يعتنقون البوذية والكونفوشية ولكن تنصر منهم كثير حتى أن بعض المحللين يذكرون أن نسبة النصارى من الكوريين أكثر من ثلث الشعب الكوري. وفي الحقيقة تتعجب من الغزو التنصيري لكوريا الجنوبية فلا تكاد تنزل قرية من القرى أو حيا من الأحياء إلا وتجد فيه كنيسة أو أكثر من كنيسة وبشكل ظاهر جداً ولافت للنظر.
أما الإسلام فله مع كوريا قصة تختصر فيها رحلة الإسلام يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل وهي كالتالي:
المرحلة الأولى: لقد عرفت كوريا الإسلام منذ القرن التاسع عن طريق التجار والملاحين العرب والفرس، بل وفي القرن الـ 12 عثر على خريطة نادرة وقديمة لشبه الجزيرة الكورية في كتاب نزهة المشتاق في اختراق الآفاق للجغرافي العربي المسلم الإدريسي. وعلى الرغم من دخول الإسلام كوريا الجنوبية في وقت مبكر إلا أن البداية الحقيقية هي ما بعد الحرب بين الكوريتين وبالذات مع وصول الكتيبة التركية ضمن قوات هيئة الأمم المتحدة وكان إمام هذه الكتيبة شيخ تركي يطلق عليه عبد الله غور كان يدعو الكوريين للإسلام، ومن ثم شيدت القوات التركية مسجداً لتأدية شعائر الإسلام في سنة 1956م كأول مسجد رسمي في كوريا، ومن ذلك الحين أقبل الكوريون على اعتناق الإسلام حتى وصل عددهم في بعض الإحصائيات نحو أربعة آلاف كوري دخلوا الإسلام، ثم أخذ عدد المسلمين يتزايد، ومن ثم تكون الاتحاد الإسلامي الكوري في سنة 1963م.
المرحلة الثانية: وهي في أواخر السبعينات والثمانينات وهو زمن هجرة العمالة والشركات الكورية إلى بلاد المسلمين المختلفة وبالذات دول الخليج العربي للعمل وإقامة بعض المشاريع الإنشائية التي لا يزال بعضها شاهداً على تلك المرحلة التي تعَّرف فيها الكوريون المهاجرون على الإسلام وبعضهم أسلم وحسن إسلامه، ومن ثم عادوا إلى بلادهم يدعون وينشرون الإسلام بين أقاربهم.
المرحلة الثالثة: هي ما بعد مرحلة عودة المهاجرين بعد تحسن الاقتصاد الكوري وكذلك عودة بعض طلاب الجامعات الإسلامية وذلك في التسعينات وأوائل القرن الحالي وبالذات بعد حادثة 11 سبتمبر التي أصبح الكوريون يسألون عن الإسلام، مما كان سبباً في انتشاره والتعرف عليه. وعلى الرغم من ذلك إلا أنه لا تزال نسبة المسلمين اليوم محدودة جداً فعددهم في أعلى الإحصائيات للمهاجرين العرب والمسلمين من آسيا وبلاد القوقاز أنهم لا يتجاوزون 150 ألفا، وأما المسلمون الكوريون أنفسهم فاختلفت الإحصائيات ما بين 35 ألفا و50 ألف مسلم كأقصى حد من مجموع السكان والذي يبلغ نحو 50 مليونا، أي لا يتجاوز المسلمون الكوريون أكثر من واحد في الألف!
هذا ومنذ تأسيس اتحاد الكوريين المسلمين اعترفت الحكومة الكورية به في سنة 1967 بل وتبرع رئيس جمهورية كوريا آنذاك بقطعة أرض لإقامة المسجد والمركز الإسلامي الرئيس في سيئول ووضع حجر الأساس بنفسه لهذا المشروع في سنة 1971م، وقد شارك في بنائه عدة دول عربية وإسلامية وافتتح بعد خمس سنوات، ثم بنيت مدرسة في المركز الإسلامي ودعمها آنذاك الملك فهد رحمه الله. ولاتزال الحاجة ماسة لتوسعة وتطوير مباني المسجد والمركز الإسلامي كما ذكر ذلك إمام المسجد الحالي الشيخ عبد الرحمن لي وهو خريج الجامعة الإسلامية. هذا ويوجد في سيئول وبقية المدن الكورية عشرة مساجد؛ منها مسجد ومركز في مدينة ديجون ويقع بالقرب من بلدية المدينة ومن مركز تجاري كبير، ويرأس المركز دكتور مصري متخصص في علم القياسات ومتخرج في إحدى الجامعات الكورية وأولاده يتقنون اللغة الكورية، أما إمامه فأخ يمني معين من قبل رابطة العالم الإسلامي. ويحتاج المركز إلى دعم المحسنين والجمعيات الخيرية لتجهيز معرض تجاري ليكون مورداً مالياً مستديماً.
إن أكثر المساجد الأخرى في كوريا الجنوبية لا تزال صغيرة وتعتبر مصليات وليست مساجد.
ويلاحظ وجود تسهيلات عالية من قبل الحكومة الكورية تجاه الدعوة الإسلامية وتسامح كبير، وفي الوقت نفسه يوجد اهتمام بالإسلام من كثير من الكوريين وبعض الجهات الحكومية كالجامعات. وقد قابلت خلال رحلة المجلس السعودي للجودة أستاذة جامعية غير مسلمة وتتحدث اللغة العربية بطلاقة تدعى د. جواج سوون لي وهي أستاذة في جامعة هانكوك للدراسات الأجنبية في قسم الدراسات العربية الكورية للتفسير والترجمة وتعمل هي وبعض أعضاء القسم على ترجمة الفتاوى الإسلامية كما أن لديهم مشروعين آخرين ينتظران الدعم وهما مشروع ترجمة الأربعين النووية ومشروع ترجمة صحيح البخاري. ومن اللافت للنظر أن الدكتورة قد تعلمت اللغة العربية في كوريا وأفادت بأن برنامج اللغة العربية في كوريا قام على مدرسين من العراق ومصر. عزيزي القارئ.. على الرغم من أن بلداً مثل كوريا الجنوبية قد غزا العالم أجمع بصناعاته المختلفة في مجال الإلكترونيات والسيارات والأدوات الكهربائية ولا تكاد تجد بيتاً بل ولا داراً من دور العلم والعبادة إلا وفيها منتج كوري؛ إلا أن الأمة الاسلامية غائبة أو مغيبة عن هذا البلد الصناعي العظيم دهراً من الزمان ولا توازي جهود الأمة ودعمها واهتمامها بهذا البلد مثل اهتمامها ببلدان أخرى تقل عنه بمراحل في التأثير والأثر. إن من يسبق إلى كوريا اليوم سيسبق إلى مستقبل آسيا وقد يكون العالم من خلال الصناعات الكورية وبالذات في المستقبل القريب. فأين جمعياتنا الخيرية ودعاتنا الفضلاء من هذا السباق؟ خاصةً مع الدور الريادي للمملكة العربية السعودية كقائدة للعالم الإسلامي ومسؤوليتها الكبرى عن الدعوة للإسلام، وكذلك الدور المأمول من رابطة العالم الإسلامي وهيئاتها العالمية. الحاجة ماسة للقيام بالتعاون والتعاضد وبناء عمل استراتيجي مخطط له ومنظم ذي أهداف وخطوات عملية واضحة ترتكز على تعاون مثمر مع اتحاد المسلمين الكوريين واتحاد الطلاب المسلمين في الجامعات الكورية مع مراعاة أنظمة الحكومة الكورية، مع أهمية التعرف على العادات الكورية وفهمها بدقة والتعامل معها بحكمة حيث إن الشعب الكوري يتميز بالاهتمام بالأسرة وتقدير الوالدين ويتميز بالوطنية تجاه بلاده. وأقترح التركيز على جيل المستقبل من أبناء المسلمين، وتبادل الزيارات مع المراكز الإسلامية وتنظيم زيارات للدعاة الكوريين وكذلك الاستفادة من رحلات الحج والعمرة في تعليم المسلمين أمور دينهم، وتوفير المزيد من المنح الدراسية للطلاب الكوريين للمملكة للدراسات الإسلامية وتأهيلهم كدعاة حيث إن أفضل طرق نشر الإسلام في كوريا هو من قبل الكوريين أنفسهم في ظل ثقافتهم المنغلقة والمعقدة بعض الشيء وفي ظل حواجز اللغة كما شاهدنا.