أمانات المدن والتلوث البصري

يقول أحد كبار السن إنه شعر في فصل الشتاء الماضي براحة نفسية كبيرة وأصبح يرتاد البر لساعات طوال، حيث مناظر الماء والخضرة المنتشرة في البراري التي تفتح النفس وتشجع على التنزه مع الأصدقاء والأسرة وممارسة الأنشطة البرية، بما في ذلك الشواء والمشي لمسافات طويلة وسط الشجيرات ومساحات الأعشاب الشاسعة المعززة بسيمفونية طيور البر.
ويضيف القائل إن معدلات السكر والضغط تتحسن لديه بشكل كبير في مثل هذه الأجواء رغم أنه لم يغير من أسلوبه الغذائي، مؤكداً أن الحالة النفسية والهواء النقي لهما دور كبير في تحسن مؤشراته الحيوية، بما في ذلك درجة النشاط الذهني.
ويؤكد أن نفسيته تتراجع ما إن يعود للمدينة ويرى زحام السيارات المقرون بأخلاق قادتها الذين يتزاحمون بلا ذوق ودون مراعاة للأولوية، وما إن يرى الردميات ومخلفات البناء التي تنتشر في الأحياء القديمة والحديثة على حد سواء، وإن كانت في الأحياء الحديثة بكميات هائلة، وتعود مؤشراته الحيوية من ضغط وسكري وغيرهما للتدهور ويبدأ مرحلة الخمول، بل الإحباط أيضاً.
ومن ناحيتي أقول إننا جميعا نعاني ما يعانيه هذا المسن، خصوصا من جهة التلوث البصري، وهو مصطلح يطلق على العناصر البصرية المؤذية للبصر والذوق العام، التي تجعل الناظر لها يحس بعدم ارتياح نفسي، ومن ذلك الطرق المتموجة غير السوية والأرصفة المكسرة أو غير القائمة من الأساس وغياب الغطاء النباتي، وانتشار الردميات التي باتت تستخدم بشكل واسع لحماية البلكات والمخططات وبعض الأراضي من المزيد من المخلفات التي ترميها الشاحنات المخالفة لأنظمة كب النفايات، التي لا يخشى قادتها رقيبا ولا مواطنا، بل يدعمهم ملاكها من المواطنين بطريقة أقرب ما تكون للجريمة المنظمة.
يقول كبير السن: دعنا من الشاحنات المخالفة ولنتحرك أولا على أصحاب الأراضي الذين يسورون أراضيهم بالردميات ومخلفات البناء بطريقة تؤسس للمزيد من التلوث البصري تحت أعين مراقبي البلديات، بدعوى حماية أراضيهم من المزيد من النفايات، بمعنى أن داوها بالتي كانت هي الداء، وعلى المواطن أن يعيش الاكتئاب الناشئ عن التلوث البصري، كما عليه أن ينمي من قلة ذوقه لاعتياده هذه المناظر المؤذية المقرفة المنافية للذوق العام.
المُدن بطبيعتها متعبة وجافة وتتطلب جهودا كبيرة من البلديات وأجهزة الدولة المعنية بتلطيف الأجواء وترطيبها لتخفيف الضغط النفسي وما يترتب عليه من مشكلات، ليتمكن الإنسان من العيش الكريم الهانئ، وهذا ما تعمل عليه بلديات كل الدول المتقدمة بالقوانين المنظمة وبصرامة التطبيق معاً على الجميع وعلى كائن من كان، لذلك عندما نسافر للخارج نستمتع بالمناظر الخلابة والنظافة التي تعتبر سمة من سمات المدن المتقدمة، في حين تعد الردميات سمة من سمات مدينة الرياض، حتى اعتدنا عليها وتعايشنا مع التلوث الذي تألمنا منه.
منذ منتصف الثمانينيات والرياض على سبيل المثال لا تهدأ والتلوث البصري مدعوما بتلوث الهواء يتعاضدان في بناء النفسية السيئة للسكان وما يترتب عليها من سلوكيات خاطئة تنم عن تلك النفسيات المتكدرة، ومن وجهة نظري حاولت أمانة مدينة الرياض تطوير الميادين والطرق وتكثيف المساحات الخضراء، لكنها لم تستطع حل المعضلة الكبرى المتمثلة في الطرق المتموجة المملوءة بالحفر والمطبات التي تتشكل بعد حفرها لمشاريع الخدمات وصيانتها، والتي لا تنتهي ولا تتزامن وكأنها قدر على سكان الرياض. والمعضلة المتمثلة أيضا في الردميات التي ما زالت بكميات كبيرة في الأحياء القديمة فضلا عن الحديثة.
معظم من أعرف ومن رزقه الله القدرة على تكاليف السفر يغادر الرياض ما إن يجد فرصة لذلك، حتى إن كانت إجازة لمدة ثلاثة أيام بحثاً عن البهجة بعيداً عن جفاف مدينة الرياض التي لم تفلح جهود أمانة المنطقة وجهود هيئة السياحة في تخفيفه بإزالة أسباب التلوث من قبل الأمانة، وبالترخيص للأنشطة والأماكن الترفيهية من قبل هيئة السياحة، ومن الأمور المستغربة غياب مرافق السينما التي لا يوجد سبب واحد مقنع لغيابها سواء من جهة الأفلام التي يمكن عرضها أو من جهة طبيعة الحضور الذي لا يختلف تماماً عن نوعية الموجودين في أي مول من مولات الرياض اليوم.
يقول أحد الأصدقاء إن الفرصة اليوم سانحة وكبيرة جداً لتقوم أمانات المدن بتطبيق قوانين النظافة بصرامة، في ظل الإصلاحات التي يرعاها خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز ــ حفظه الله ــ في الأجهزة كافة لتنهض بدورها التنموي تنظيماً وتطويراً وحماية، وأن الأعذار الواهية لكثير من المسؤولين بوجود كثير من المتنفذين فوق مستوى القانون باتت غير مقنعة، والأمر يتعلق بمدى جديتهم هم في تطبيق الأنظمة والإجراءات واللوائح، خصوصاً تلك المتعلقة بالنظافة وحماية البيئة والمواطنين من كل أنواع التلوث التي تكلف الدولة الكثير من الفواتير التي يمكن تخفيضها بشكل كبير لو تمت معالجتها بقوة النظام والتطبيق.
ختاماً أتطلع لحملة كبرى تقوم بها أمانات المدن للحد من أنواع التلوث كافة، خصوصا التلوث البصري الناشئ عن الردميات ومخلفات البناء التي باتت تشكل لوحة كئيبة في معظم الأحياء، خصوصا الأحياء الجديدة، ويمكن للأمانة أن تجبر أصحاب الأراضي على إزالة المخلفات التي تحيط بأراضيهم، كما يمكن لها أن تستخدم المراقب السري لضبط المخالفين ومخالفتهم بما يجعلهم عبرة لغيرهم ليرتدعوا عن رمي المخلفات في غير الأماكن المخصصة لها كما هو الحال الآن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي