أخبار.. أخبار.. أخبار
مخاتلةٌ عقول الفلاسفة الألمان أصحاب المنطق الرياضي العلمي، أنهم يأخذون حقيقة يثبتونها نظريا، قبل أن تتحقق واقعيا. سر فتح مغارة الفلسفة الألمانية، الواقع. الواقع الذي يثبت عكس ما حاولوا إثباته، وقبل ذلك كان سهلا إقناع الناس بالتوارد المنطقي أنه صحيح. وللتبسيط، من الممكن للمنطق الرياضي أن يقول الغرابُ أسود وهذه حقيقة، والغراب طير وهذه حقيقة، ثم يصل إلى استنتاج يبدو معقولا بتراتبه المنطقي الرياضي: إذن كل الطيور لونها أسود! ومن يعرف "واقع" الطيور سيعرف في الحال أن الاستنتاج خاطئ وبلا داع أن يُحاجَّ الفيلسوفَ لأن الواقع أكبر برهان. وهنا سر نجاح وتأثير الفلسفة العقلية الألمانية كما حاول إنجلز وكارل ماركس بالإحصاء الرياضي مع الجدلية المادية إقناع الناس بأن الشيوعية الاقتصادية هي الحل الأكيد للبشرية، ثم نستيقظ إلى واقع يدحض كل ما قالاه.
وهنا لابد أن أسترجع ما تلكأتُ بهضمه من فكر "هيجل" الألماني، وما كان يبدو للغر الساذج أنه صحيح عندما يُجلُّ الفلسفة الرياضية، فهو قال: "عندما تحل الأخبارُ محل الدين كمحور التوجيه الأول فهنا ستتمدن الإنسانية". وقصده في التمدن الرقي الحضاري.
صارت الأخبار تأخذ مكانا أعظما وفي بعض أجزاء الدنيا تحتل المكان الأعظم في وعي الإنسان، ولا تحتلّ وعيَه فقط بل تقيده وتدخل ما تريده من وعي. إننا الآن نضع كل حياتنا في موضع السكون فقط لنتابع الأخبار، نحن نقاطع كل ما هو مهم في حياتنا الشخصية حتى لا تفوتنا معلومات لا علاقة لها أبدا في حياتنا الشخصية.. نلاحق السياسة، والكوارث، والأفلام، والمجلات، وعالم السيارات، وعالم الأزياء، وتغيراً مناخيا فوق انتاركتيكا، وانقراض سلحفاة في أدغال غواتيمالا.. ثم لا ننجح أن نتابع أخبارنا نحن، أخبار صحتنا، أخبار فكرنا، أخبار عاطفتناـ أخبار بيئتنا المحيطة، أخبار عملنا، أخبار تعليمنا..
إن الأخبار هي عملية تسليم كامل لكامل الوعي. بل إننا نتبنى الآراء، ونخوض المعارك، ونكسب الأعداء، ونفقد الأصدقاء من أخبار لا علاقة لنا فيها ولا في منشئها ولا في أسبابها، ولا قدرة لنا حتى على الحكم في صحتها، ثم تشتعل النيران في الغرفة الواحدة، في البيت الواحد، في المجتمع الواحد، في الوطن الواحد، وبين الدول. تتعملق الأخبار بلا رأس يرى، وتتضاءل ذواتنا وأخبارنا الخاصة حتى بيننا، ونمشي أشباحا في عالم كله أضواء، كل الأضواء، إلا من ضوئنا.
هل هي غريزة أننا لا بد أن نكون معلقين بسماعات في الآذان، وعيون ملصوقة في الشاشات، والصحف والكتب حتى لا يفوتنا شيء فنضعف؟ أم هي من دوافع الخوف كأن نقرأ الآن كل شيء عن الكورونا، خوفا أن تفوتنا معلومة عنه فيأتينا زائرا، كما أشغلتنا كل الأمراض ثم رحلت.. لأن لا تأثير لنا عليها، فهناك من يتولون أمرها.
المدرسة والجامعة هما الداران اللتان نتلقى فيهما في أول حياتنا التعليم الرسمي.. ثم تتولى الأخبار تعليمنا. أخبار نقلتنا للكراهية والتطاعن والحروب ورجعّت دولا قرونا للوراء.. وكذب منطق هيجل!
وعلى طريقة الفلسفة الرياضية: الواقع كذب هيجل!