بكين تستغل المستجدات الدولية لتحريك مطالبها
من المعروف أن الصين تتنازع حق السيادة على مجموعة من الجزر المرجانية الصغيرة غير المأهولة في بحر الصين الجنوبي مع تايوان وعدد من أقطار آسيان. هذه الجزر تسمى بجزر سبارتلي وهي غنية بمصائد الأسماك والنفط والغاز، ومن بينها جزيرتا توماس الأولى والثانية اللتين تطالب بهما الفلبين.
وبينما كان العالم مشغولا بمتابعة الأزمة الأوكرانية، وحادثة اختفاء طائرة الركاب الماليزية طوال آذار (مارس) الماضي، كانت قلة قليلة من المراقبين تتابع وضعا خطيرا آخر على بعد نحو خمسة آلاف ميل من بحر الصين الجنوبي، وتحديدا عند جزيرة توماس الثانية، حيث ترابط منذ 1999 وحدات بحرية فلبينية كتأكيد لمطالبة مانيلا بحق السيادة عليها في مواجهة الادعاءات الصينية.
والمعروف أن بكين قامت في التاسع من آذار (مارس) من العام الجاري بأول تحرك لها منذ 15 عاما لإنهاء الوضع القائم هناك. وتمثل هذا التحرك بقيام قوات البحرية الصينية بمنع مانيلا من إيصال المؤن لجنودها المرابطين في تلك الجزيرة، الأمر الذي اضطرت معه سفينتان من سفن البحرية الفلبينية للعودة من حيث انطلقتا. وقد ردت مانيلا على هذا التصرف بإمداد جنودها بالمؤن عن طريق إلقائها عليهم من الجو.
وعلى حين تتهم بكين مانيلا بأن سفن الأخيرة تحمل مواد إنشائية الغرض منها إقامة قواعد ومنشآت فلبينية دائمة على جزيرة توماس الصغيرة، فإن مانيلا تنفي هذه المزاعم وتقول إن ما تحمله سفنها مجرد سلع ومواد لتحسين ظروف جنودها المرابطين في تلك البقعة النائية.
يقول "دونالد أيمرسون" الذي يترأس دائرة شؤون وأبحاث جنوب شرق آسيا والباسيفيكي في جامعة ستانفورد الأمريكية المرموقة إن الصين بتصرفاتها الأخيرة قد خرقت الإعلان الموقع في عام 2002 بينها وبين دول آسيان العشر، ومن ضمنها بطبيعة الحال الفلبين. والمقصود بهذا الإعلان هو ذلك الذي يعرف اختصارا باسم "دي. أو. سي" الذي تعهد الموقعون عليه بحل الخلافات بينهم حول الأراضي والمياه والحدود بالطرق السلمية كاللجوء إلى التحكيم الدولي والمساعي الحميدة أو أي وسائل أخرى لا تتضمن تهديدا باستخدام القوة. كما تعهدوا فيه بضبط النفس إزاء أي تحركات من أي جانب وذلك بهدف تجنب التصعيد ومنع تعقيد الأمور المؤدي إلى خلخلة الأمن والاستقرار الإقليمي. وكما هو واضح فإن مانيلا لم تقم بعمل جديد يعقد الأمور، وإنما واصلت ما كانت تقوم به منذ عام 1999، كما أن الصين لم تقم بضبط النفس المطلوب. غير أنه يجب ألا يغيب عن البال أن دول آسيان المعنية مباشرة بالملف لم توحد مواقفها تجاه الصين وإنما راحت تتصرف بطريقة انفرادية بدلا من اتباع سياسة جماعية ضاغطة، بدليل ما حدث في اجتماع وزراء خارجية المنظومة في "فنوم بنه" في تموز (يوليو) 2012، حينما تضاربت المواقف من السياسات الصينية فوقفت كمبوديا ضد فيتنام والفلبين. في هذا الوقت كانت السياسة الصينية واضحة وقائمة على دبلوماسية كسب الوقت والانتظار. إذ لوحظ في مناسبات عديدة أن المسؤولين الصينيين غير متحمسين للتوصل إلى حلول جذرية للمشكلة وإنما متحمسون فقط للحوار حولها وتهيئة مناخ إيجابي لتبادل وجهات النظر بخصوصها. وبعبارة أخرى أثبت الصينيون أنهم يرغبون في الحديث حول مستقبل الجزر، ولا يرغبون في تنفيذ أي تعهدات بشأنها.
وقد وجدت واشنطون فيما حدث بين حليفتها الفلبينية ومنافستها الصينية فرصة لشن هجمة إعلامية جديدة على الأخيرة وتوجيه مختلف التهم إليها. فالناطقة الرسمية باسم الخارجية الأمريكية مثلا اتهمتها بتوتير الأوضاع والتصعيد وخرق المعاهدات. بينما قام محللون وكتاب أمريكيون بالإشارة إلى أن ما قامت به بكين ليس أمرا غريبا عليها، بمعنى أنها اعتادت على مناكفة جاراتها الآسيويات عبر تصرفات مستهجنة لأساطيلها البحرية تحديدا. وفي هذا السياق تمت الإشارة إلى جملة من التصرفات الصينية التي تدل - بحسبهم - على نوايا بكين التوسعية وسعيها إلى إحكام سيطرتها على ما وراء بحر الصين الجنوبي وبحر الصين الشرقي، أي على منطقة تمتد من تايوان وحتى خليج تايلاند مرورا بسواحل فيتنام والفلبين وبورنيو وإندونيسيا وشبه جزيرة الملايو.
من هذه التصرفات احتلال جزر ضحلة تطالب بها الفلبين، والتحرش الدائم بالسفن الفلبينية والفيتنامية، وتسيير سفن حربية حول جزيرة جيمس التي تطالب بها ماليزيا، وإطلاق النيران التحذيرية على السفن المارة بين المياه الفاصلة بين هذه المجموعة من الجزر الصغيرة، ومطالبة السفن الأجنبية أو الأشخاص الأجانب بالحصول على إذن مسبق من السلطات الصينية للصيد في منطقة تمثل نصف مساحة بحر الصين الجنوبي، والتهرب من توضيح وتحديد خطوط وحدود المنطقة الجغرافية التي تقول إنها تحت سيادتها البحرية والجوية، ورفض تبديد المخاوف التي تبديها جاكرتا حول المنطقة الاقتصادية الخاصة في شرق "ناتونا" التي يقلل من فوائدها ما رسمته بكين حولها من خطوط تحذير ورقابة ضمن ما تسميه "يو شيب لاين".
والحقيقة أن بكين لم تختر فقط الوقت المناسب لتجديد مطالبها بالجزر المشار إليها والتحرش بالدول التي تنافسها في المطالبة بالسيادة عليها، وإنما اختارت أيضا ظرفا دوليا معقدا لا يمكن فيه لأي طرف أن يقف في وجهها. فالولايات المتحدة مشغولة بمواجهة الطموحات الروسية وأخطار إيران النووية وانتشار الحركات الإرهابية المتطرفة، وروسيا مشغولة باستعادة دورها القديم زمن الاتحاد السوفياتي وتثبيت دورها في سورية من خلال دعم نظام الأسد. أما الدول المعنية مباشرة بالتنافس مع الصين على الجزر وهي الفلبين وماليزيا وبروناي وفيتنام وتايوان فهي، على الرغم من تمسكها بحقوقها، لم يسجل عنها أي تهديد باللجوء إلى القوة، بل لا يمكنها أن تتوعد الصينيين وتدخل معهم في معارك معروفة نتائجها سلفا.
وينتقد البعض دول آسيان ليس فقط بسبب عدم تنسيق سياساتها تجاه بكين كما أسلفنا، وإنما أيضا بسبب عدم التزامها الدقيق بإعلان "دي. أو. سي". ويضربون المثل بما حدث في تشرين الثاني (نوفمبر) 2013 حينما أعلنت وزارة الدفاع الصينية من طرف واحد تضييق حرية الملاحة الجوية فوق مياه شمال شرق آسيا، وكان المتوقع بموجب بنود الإعلان المذكور ألا تصدر دول آسيان بيانات تنديد كيلا تغضب بكين، وكيلا تظهر أيضا بمظهر المنحازة إلى مواقف واشنطن وطوكيو اللتين نددتا بالخطوة الصينية، غير أن البيان الصادر عن قمة دول آسيان واليابان في كانون الأول (ديسمبر) الماضي تضمن فقرة تدعو إلى ضمان حرية وسلامة الملاحة البحرية والجوية، والتعاون من أجل فتح الأجواء دون قيود أمام حركة الطائرات المدنية وفقا لمبادئ القانون الدولي.