القضاء بين العدل ومجلس القضاء الأعلى
كثيرا ما يتردد الحديث عن فصل السلطات ودور ذلك في حوكمة المجتمعات بعدالة وفاعلية وحماية للحقوق، هذا الحديث يقع في فضاء بين الرغبة في التقدم وتقليد الدول المتقدمة دون تفهم عميق للحالة. ولكن القليل يقال تحليليا عن تفصيل وفصل مهام السلطة الواحدة قبل فصل السلطات. سلم الارتقاء المجتمعي طويل وصعب ولا بد أن يكون تدرجيا لتزيد فرص نجاحه من خلال صهره في بوتقة الثقافة العامة، وإظهار دورة المحسوس تراكميا. للقضاء دور محوري في إدارة المجتمع، ولذلك لا بد من إعطاء هذه السلطة حقها من التركيز نظريا وعمليا. يقوم وزير العدل بجهد مضاعف في الوقوف على هرم الوزارة، ويرأس مجلس القضاء الأعلى، ويشرف على برنامج خادم الحرمين لإصلاح القضاء. هناك هدف واحد، ولكن الوصول إليه من خلال هذه الأدوار والمهام التي تتطلب فصلا نظريا واضحا وأداء عمليا مختلفا قياسا على التجارب، أصبح صعب المنال، لا بد من إعادة هيكلة القضاء بفصل هذه المهام كي نرفع من احتمال النجاح وتحقيق الأهداف المرجوة.
تحليليا هذه المهام في تضارب يصعب حتى على المثالية تجاوزها والتعامل مع جزئيتها الإدارية والتنظيمية والبشرية. المهمة الرئيسة لوزارة العدل تتلخص في العناية بالبنية التحتية الكاملة للقضاء بينما لمجلس القضاء إدارة القضاة من إعداد وتأهيل إلى الرقابة، بينما يهدف البرنامج إلى إعادة تأهيل المرفق بما يشمل مهام الوزارة والمجلس، ولكن روح الإصلاح قد تتعدى ذلك بما هو أوسع أفقا. ولذلك هناك خطوط تقاطع ودوائر تتطابق أحيانا وتفترق أحيانا أخرى. فمثلا بعد مضي سنوات على البرنامج (الاقتصادية: إصلاح القضاء: الزاوية الاقتصادية تاريخ 04/16/ 2013 وتاريخ 10/23/ 2007 حول البرنامج)، لا بد من عصف ذهني مستقل ومستحق قبل أن تهدر الأموال ويضيع وقت ثمين في تحقيق رؤية خادم الحرمين. تضارب المهام إشكالية إدارية ولكنها فيما يخص القضاء جزء من تحد مختلف نوعيا، ولذلك فإن فصل هذه السلطات مستحق بسرعة.
ارتبط جهاز القضاء بالمؤسسة الدينية أكثر من غيره في مرحلة مختلفة نوعيا في تاريخ المملكة مثل تعليم البنات التي عملت الأجهزة الحكومية على ضمها إلى جهاز التعليم العام بنجاح بعد أن كانت تحت مظلة المؤسسة الدينية. انفراد المؤسسة الدينية بالقضاء وحدها قد يكون أضعف القضاء بسبب محدودية قنوات التجارب العالمية والنقص في الكوادر البشرية الوطنية التي ليس لديها تعليم ديني، وأخيرا بسبب حقيقة أن عالم اليوم يغلب عليه الطابع الاقتصادي والاجتماعي، بينما الفكر الديني الاقتصادي والاجتماعي وتجلياته القضائية لم تستطيع المواكبة مع المستجدات المتغيرة. هنا لا بد من القول إنصافا إن القضاء يعاني مثل ما يعاني أي جهاز نظامي مثل هيئة الخبراء وبعض الأجهزة المهمة التي لم تجد طريقا جديدا لأسباب إدارية قيادية في هذه الأجهزة، أو تحتاج إلى تغيير هيكلي. من يرد أن يصطاد في الماء العكر سيجد الاتهامات سهلة ولكن المنصف سيتلمس فرصا للتقدم. بل إن البعض قد يصورها وكأنها موقف من الشرع ولكن هذه خطيئة فكرية وابتعاد عن الموضوعية. الخلفية الشرعية ستبقى دائما مصدرا رئيسا للتنظيم التشريعي.
أحد التحديات المهمة في مجتمعنا اليوم يدور حول كفاءة الأجهزة البيروقراطية المهمة، ولذلك لا يختلف القضاء عن غيره. الخطوة الأولى تبدأ من فك تداخل هذه الدوائر والتضارب الإداري وإيجاد مجال فسيح للعصف الذهني وخلق "تنافسية" صحية وفصل السلطات الإدارية لمواجهة التحديات الأكبر، من خلال التعاون بين كافة الفئات والمكونات الوطنية فكريا وماديا.