الحارثي والغذامي.. وموت النخبة
الدكتوران العزيزان فهد العرابي الحارثي وعبد الله الغذامي كانا قد تطرقا إلى حديث عن "موت النخبة"، الحارثي في محاضرة له في نادي الرياض الأدبي، أما الغذامي فقد تطرق لهذا من قبل في كتابه "الثقافة التلفزيونية" ثم كرسه فيما بعد في حديثه عن وسائل التواصل الاجتماعي وعلاقتها بسقوط أو موت النخبة وبروز الشعبي.
إن عبارة "موت النخبة" ليست سوى جزء من سياق مصطلحي تداعى مع انهيار الاتحاد السوفياتي، حيث أخذت تغزو الحياة الثقافية العالمية، ومنها ثقافتنا، كتب ومقالات عن "نهاية الأيديولوجيا" أو "ما بعد الأيديولوجيا" أو "موت الأيديولوجيا" أو سقوطها أو "نهاية اليوتوبيا" و"ما بعد الحداثة" و"نهاية الحداثة" أو "نهاية الحكايات الكبرى" أو "نهاية التاريخ" أو "موت المؤلف"... إلخ.
والحقيقة.. أنه ما من موت أو نهاية أو ما بعد، بمعنى القطيعة المطلقة إنما الأمر بالأصح تعبير مجازي يشير إلى أن هناك تغيرا في النمط والدرجة وتطورا أو ارتقاء في المحتوى جاء لاحقا زمنيا دون شطب وإلغاء أو قضاء مبرم على النسق والخطاب الذي كان من حيث المبدأ.. فالأيديولوجيا ـــ مثلا ـــ لا يمكن أن تغادر المسرح طالما هناك فكر يطرح وبشر يعتقدون به ولهم تصوراتهم ومواقفهم، كما أن المؤلف لا يموت بقدر ما يزداد حضوره بازدياد عدد قراء أو مستهلكي إنتاجه.. أما "ما بعد الحداثة" فليس اتجاها ناسفاً للحداثة، ملغيا لها، بل ما هو إلا تفاقم في الانفجار لأشكال التعبير الذي رفعت لواءه الحداثة. وللتدليل على أن هذا بدأ مع مولد الحداثة لا قبلها، وأشبه ما يكون بقولنا "بعد الميلاد" في التاريخ مع أن هناك من تحمس فعلا إلى أن ثمة ما يسمى "ما بعد الحداثة" ولعل أبرزهم الدكتور إيهاب حسن الذي يشير الدكتور خيري منصور في كتابه "خروج العرب من التاريخ" إلى أنه أول من أطلق هذا المصطلح، بينما لا يعني "موت النخبة" الانزياح لأهميتهم وخفوت وهجهم، وإنما هو على العكس مما ذهب إليه الدكتوران الحارثي والغذامي تماما.. كيف؟!
قبل أن أجيب أود أن أستحضر هنا مثال "الأمية"، التي كانت مستشرية قبل نصف قرن في بلادنا لكنها اليوم تكاد تكون تلاشت كليا .. هنا نقول باختفاء الأمية أو "موتها"، لكن هذا يعني من ناحية أخرى انتشار المتعلمين أو كثافة "حياتهم".. فحين كان عدد المتعلمين قلة في بدايات التعليم في المملكة كان ينظر إليهم على أنهم "نخبة" بحكم ندرتهم، ثم أخذت هذه النخبة – مع التطور - تتسع شيئا فشيئا حتى أصبحت هي الغالبة اليوم.. بمعنى أن النخبة المتعلمة لم تمت ولم تسقط، وإنما ازدهرت واتسع نطاقها، أي زادت حياة وحضورا..، والذي مات أو سقط حقا هو "الأمية"!
الأمر نفسه حدث مع المثقفين، فحين كان المثقف، بمعنى الشخص المتعلم المطلع على معارف وعلوم أخرى وله اهتمامات وأنشطة تتعلق بالفكر والاجتماع والسياسة، حين كان هذا المثقف ــــ بالمفهوم الكلاسيكي والرومانسي - حالة نوعية ونادرة كان ينظر إليه مع أمثاله بأنهم "نخبة" غير أنه بمجرد أن أخذ عدد النخبة يزداد وتزداد سبل تواصل هذه النخبة مع غيرها عبر وسائل الاتصال الحديثة.. امتلأ المشهد بهم وتسيّدت هذه النخبة واجهته بعدما كان المثقف النخبوي معزولا في دوائر محلية، سواء أندية أو ديوانيات، أو صحفا، أي أن "النخبوي" بات يتشظى ويتكاثر ويتكاثف ويصبح سائدا مألوفا على أوسع نطاق.. وحتما لا يمكن أن نعتبر هذا الانتشار للنخبة دليلا على "موت لها" وإنما العكس تماما هو الصحيح، فهو ازدهار للنخبة وكثافة حياة!
إذاً.. لم تسقط الفضائيات ووسائل الاتصال الاجتماعي الحديثة والإنترنت المثقف النخبوي.. بل أسهمت في إنقاذه من عزلته أو حصريته.. و"موته" حين عممته وعولمته، فكم من مفكر، فيلسوف، كاتب، روائي، شاعر.. وبالمطلق.. كم من مبدع وعالم ومثقف وفنان لم يكن معروفا إلا على نطاق ضيق في بلده وربما من المهتمين فقط بالمجال، ويكون محظوظا إذا ما ترجمت أعماله أو تم تسليط الضوء عليه بمقالة أو لقاء إعلامي. غير أن عولمة الاتصال أبعدت شبح العزلة عن هذا النخبوي وأنقذته من "الموت" فصار مبدعا من أقاصي الكون معروفا في قرى ومدن في أصقاع الكون الأخرى، يصلهم للتو إنتاجه المدهش ويرونه في هذا الفضاء الإلكتروني عبر التلفزة أو الإنترنت أو سواها.. أي أن عولمة الاتصال في الواقع أدت إلى تتويج النخبة في محفل كوني لا سابق له، بل ودفعت بـ "الشعبي" نفسه إلى الاحتذاء بهذا النخبوي والاصطفاف والتماهي معه في إدراك ما يدركه والاطلاع على المصادر المعرفية التي يطلع عليها والاهتمام بالمواضيع والقضايا، التي لم تكن في السابق من اهتمام هذا "الشعبي" كالديمقراطية والحريات وحقوق الإنسان، وبات "الشعبي" يتطلع إلى أن يكون هو الآخر نخبويا أيضا!
وهكذا ففي الوقت الذي أتاح فيه الفضاء المفتوح توسيعا لنطاق حضور النخبة أضاف لها نخباً جديدة جاءت من ارتقاء "الشعبي" إلى مستوى "النخبوي".. ما يعني أن النخبوي بعولمة الاتصال أصبح أكثر حضورا وأكثف حياة وأبعد ما يكون عن الموت، وأن بروز "الشعبي" ليس في الواقع سوى تحرير للشعبي من أغلال شعبويته تحت تأثير قوة جاذبية النخبوي.. وبالتالي يصبح سقوط النخبة أو موتها ليس سقوطا للأسفل ولا موتا لها، وإنما سقوط إلى الأعلى وحياة أشد.