التطوير العقاري في أمريكا

"كنا نسعى لبناء مجتمع وليس مجموعة من المنازل"، كانت هذه أولى الكلمات التي ابتدأت بها السيدة (فكتوريا ريني) حديثها لنا عن المشروع السكني الذي قامت بتطويره مع زوجها في إحدى الضواحي شمال مدينة شيكاغو في الولايات المتحدة الأمريكية. كان اللقاء في المبنى التابع لجمعية ملاك المنازل والذي يستخدم من قبل سكان الحي لعقد لقاءاتهم الدورية ولإدارة شؤون الحي. أضافت: كان ذلك في خريف عام 1987 عندما تناهى إلى مسامعنا أن مطورا عقاريا في طريقه لشراء الأراضي الخام المجاورة (2 مليون متر مربع) للحي الذي نسكن فيه. سارعنا نحن السكان الأوائل والجيران إلى شراء الأرض وتطويرها بالطريقة التي نريد. وكما ترون نجحنا في ذلك. قالت العبارة الأخيرة بينما كانت تشير بيدها إلى النافذة التي خلفها، حيث كنا نستطيع رؤية بضع مئات من الوحدات السكنية تحيط بها المسطحات الخضراء الطبيعية. "كان المطور الذي يرغب في شراء الأرض ينوي بناء ثلاثة آلاف وحدة سكنية. كم كان ذلك مرعبا بالنسبة لنا؟". قالت ذلك قبل أن تضطر لإكمال حديثها جالسة، حيث لم تعد قادرة بسبب تقدمها في العمر من الوقوف طويلا.
تكمن الفكرة الرئيسية من هذا المشروع في المساحة الكبيرة للمناطق المفتوحة والمشتركة بين سكان الحي. ولتبرير هذه المساحة من الناحية المالية للمشروع، تم تخصيص جزء لا يستهان به كمزرعة للخضراوات والفواكه. سكان الحي والأحياء المجاورة هم السوق الرئيسي لمنتجات المزرعة، حيث يحصلون على سلتهم الأسبوعية. كان نجاح الفكرة في المحافظة على المناطق المفتوحة وبناء عدد أقل من الوحدات السكنية (فلل مفصولة وشقق سكنية) مع إثبات الجدوى المالية بما يضمن عوائد مجزية للمطور. أيضا، كان وجود مطور يمتلك الشجاعة الكافية للقيام بمشروع كهذا يتطلب التزاما لمدة طويلة وتوفير شركة تدير المزرعة وتحرص على استمراريتها وعدم التفكير بالخروج المبكر خلف النجاح الكبير للمشروع.
أخفق ولم يتمكن البرد الشديد من حرماننا من الاستمتاع من التجول في هذا الحي. ممرات مشاة على جوانب الشوارع الداخلية، شوارع عريضة بشكل كاف لسيارتين وضيقة أيضا بشكل كاف حتى تجبر السائقين على عدم السرعة. كنت فقط أعاني وأنا أتذكر التخطيط الفقير للأحياء في مدينة الرياض، حيث الشارع ليس إلا عبارة عن أسفلت بين سورين! لست أدعو هنا إلى بناء مزارع في أحيائنا، فالسياق والأجواء لا شك مختلفان تماما. لكن ما يلفت الانتباه هو البيئة السكنية الرائعة والملهمة، سواء في هذا المشروع أو غيره من الأحياء السكنية هنا في الولايات المتحدة الأمريكية.
لا شك أننا في حاجة شديدة لمراجعة تخطيط الأحياء السكنية. تكرار وتشابه يدعوان للملل حتى تظن لوهلة أن المخطط والمطور يتكرران في كل المشاريع. هناك قصور شديد في فهم أهمية تطوير الأحياء وخلق بيئات ومجتمعات سكنية. فيما يتركز اهتمام المطورين على التصاميم المعمارية للوحدات السكنية، فإنهم يغفلون تماما الاهتمام بالمناطق المشتركة ويغيب عن كثيرين أن الاهتمام بها يخلق قيمة مضافة ويعزز من قيمة المشروع. تآكل دور الحي بشكل كبير وانحسر التفاعل بين الجيران إلى أدنى مستوياته ولولا المسجد (وإن كان هذا بدوره يعتمد أيضا على فعالية الإمام) لانقطع التواصل تماما بين سكان الحي.
في طريق عودتنا وبعد انتهاء الزيارة، التقط (مارك)- وهو المدير التنفيذي لبرنامج الماجستير في التطوير العقاري- المايكروفون الداخلي للباص، وقال "ألا ينسجم هذا مع ما كنا نقوله لكم في المحاضرات؟ التطوير العقاري ليس عبارة عن بضعة منازل متراصة وبعض الشوارع وإنارة وتصريف سيول.. التطوير العقاري أعمق من ذلك بكثير!".

طالب ماجستير في التطوير العقاري- الولايات المتحدة الأمريكية

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي