المملكة والاقتصاد الرأسمالي ذو التوجهات الإسلامية

قبل مدة كتبت مقالا تحدثت فيه عن جامعاتنا واستثمار امتيازات مناطقها. وفي المقال تحدثت عن الاقتصاد الرأسمالي ذي التوجهات الإسلامية على أساس أن هذا هو أقرب ما يمكن أن نصف به سلوك الاقتصاد السعودي، أو ما أعتقد أنه الطريق الذي يراد بالاقتصاد السعودي أن يسير فيه، وبعد أن طرحت هذا المفهوم ضمن المقال جاءتني استفسارات حول معناه وانعكاساته، هذا المقال "في عجالة" يعمل من أجل توضيح ذلك.
ظهر علم الاقتصاد في القرن الـ 18 عندما نشر آدم سميث كتابه الشهير "ثروة الأمم"، ولا يمكن لأحد أن يدعي وجود علم الاقتصاد Economy قبل هذا التاريخ، حتى في تاريخ العلم عند المسلمين، ليس هذا معناه عدم وجود كتب تحدثت عن مواضيع ذات علاقة مثل الخراج الجزية والزكاة، أو الأموال والتجارة والصنائع، لكن "كعلم" لم يظهر "الاقتصاد" قبل هذا التاريخ أبدا، ولفهم هذا لابد من تحديد ماذا أعني بكلمة "علم" هنا. ظهر آدم سميث مع ما سمي عصر التنوير في أوروبا، وهو تلك الفترة التي تلت انهيار الكنيسة كمصدر للمعرفة وبروز العلم التجريبي المرتكز على معطيات الحس "المادي" كأساس للمعرفة، ونظرا لما سببه ذلك في نهضة أوروبا، فلم يعد العلم بعدها يطلق على التشريعات الكنسية التي مصدرها الكتاب المقدس، ولا على أي تفسيرات أو تنبؤات مهما كان مصدرها، بل "فقط" تلك التي يخلقها المنهج التجريبي الذي اعتنق المنهج المادي الحتمي مع نجاح تفسيرات وتجارب نيوتن في الفيزياء.
لقد أدت نجاحات نيوتن إلى نظرة مفادها أن الوجود ككل عبارة عن آلة ضخمة تتحرك وفق نمط ثابت وأن على الإنسان فقط أن يكشف هذا النمط ويتعامل معه، وقد عم هذا التصور أرجاء أوروبا التي ظهر فيها آدم سميث وهو يفسر سلوك الأسعار والإنتاج والتوزيع، وابتدع مفهوم اليد الخفية، لتفسير سلوك الإنسان في الاقتصاد، وأنه يخضع لأحكام تفرض عليه سلوكه وأنه لا أحد يفعل ما يفعله تطوعا وحبا للآخرين، إنما هي حاجات إنسانية تقوده، ودور الاقتصاد "كعلم تجريبي" أن يكتشف هذا ويحلله ويفسره "ولا يتدخل فيه"، ذلك أن هذه هو حكم الطبيعة الذي يجعل كل شيء يتحرك بصورته الصحيحة.
عندما وضع آدم سميث تصوراته كان يعيش في عصر الرأسمالية القاسي، فكان لزاما أن يفسر السلوك الاقتصادي وفقا لما تمليه التجربة الحسية وليس وفقا لما يتمنى أن يصبح مثاليا، فالاقتصاد منذ عهد آدم سميث وحتى الآن "تقريبا"، لا يهتم بما يجب أن يكون بل فقط بتفسير ما هو قائم والتنبؤ به واتجاهاته، أما القوانين والأنظمة التي تشرع العمل الاقتصادي فهي شأن قانوني بحت، نعم قد يحتاج المشرع إلى رأي الاقتصادي ليتنبأ بالأثر لأي تشريع جديد على الاقتصاد، لكن تلك التشريعات ليست من علم الاقتصاد، بل هي شأن قانوني بحت له أثر اقتصادي. وهذه هو الفرق "في رأيي" بين الاقتصاد كما أعرفه وبين ما يسمى الاقتصاد الإسلامي، فالاقتصاد الإسلامي حتى الآن لم يستطع أن يتجاوز علم الاقتصاد التجريبي بل هو مرتكز تماما على معطياته في تفسير السلوك الاقتصادي في أي مجال، لكن الاقتصاد الإسلامي حتى الآن "مع استثناء لبعض الكتابات" هو مناقشة للتشريعات والفتوى، وهذا ليس بعلم الاقتصاد بتاتا، فعلم الاقتصاد محايد وموضوعي "بقدر ما تحمله كلمة محايد من تحفظات فلسفية"، فهو يركز فقط على تتبع أثر المتغيرات الاقتصادية بعضها بعضا، وعلى الاقتصادي أن يراقب ويسجل ويحلل أثر تلك التشريعات الجديدة.
اذا كانت هذه هي حقيقة الاقتصاد "كعلم" فهناك فلسفتان اقتصاديتان تفسران السلوك الإنساني، إما أن كل شيء ملك للأفراد، وأن الجماعات الإنسانية تعترف بهذا وتعمل على حمايته، ولهذا تظهر الحكومات، أو أن لا أحد يملك شيئا البتة وكل شيء مملوك لكل الناس وأنه وفقا لهذا لا حاجة إلى أي حكومة. في الفلسفة المتطرفة الأولى، الفرد الذي لديه رأسمال يستطيع أن يمتلك عناصر الإنتاج، ويقرر وحده توزيع رأس المال عليها بقدر احتياجه إلى كل عنصر والعمال "الذين لا يملكون رأس المال" هم جزء من عناصر الإنتاج. دور الحكومة في هذا التصور المتطرف هو حماية رأس المال، وحماية الحريات الفردية في الشراء والبيع وغيرها، وذلك من خلال سن التشريعات التي تضمن بقاء الاقتصاد يعمل وفقا لهذا التصور، لكن لا تتدخل لتفرض أي توزيع للثروة، وقد قاد ساد هذا التصور الخطير كل أوروبا في فترة الثورة الصناعية، وكان يعتقد أن هذا هو الذي منح كل تلك القوة لرأس المال حتى صنع تلك الفترة الهائلة في حياة الحضارة الإنسانية. لكن ما لبثت أن ظهرت المشكلات في الاقتصاد، فقد زاد العمال وزاد معهم الفقر، كما زادت ثروات رجال الأعمال الذين يملكون رأس المال. هنا ظهر ماركس لينظّر للعمال الحياة الشيوعية، وأنه ليس من حق أحد أن يملك كل شيء، بينما هناك من لا يملك شيئا، وقال الكثير وثار معه العمال حتى تفككت بنية الدول وقامت الثورات. وانتهى العالم إلى قطبين رأسمالي وشيوعي، وبدأ الصراع بينهما على اقتسام ثروات العالم.
ونظرا لحجم التطرف في كل جانب فقد بدأت المشكلات الاقتصادية في الظهور من خلال الأزمات الكبرى، وتعلم كل طرف أن يخفف من حدة التطرف لديه. وارتكازا إلى المبدأ الأصلي اتجه كل طرف إلى إدخال تشريعات تضيف جزءا من الطرف الآخر، ففي الجانب الرأسمالي ومع الحفاظ على ملكية الفرد كأساس لتفسير الاقتصاد وسلوكه فقط ظهرت تشريعات تعطي الحكومات بعض الحق في تملك المشروعات التي لا يرغب الفرد فيها، كما فرضت بعض الشروط على توزيع الثروة، مثل معاشات التقاعد والحد الأدنى للرواتب، ومنع الاحتكار ومحاربة الغش، وغير ذلك، في المقابل تنازل الطرف الشيوعي عن مشروعه الخيالي، رضي ببعض الملكية الفردية وسمح لرأس المال أن يشارك في المشروعات وأن يحصل على الثروة.
والخلاصة هنا، أنه لا مفر لأي اقتصاد من أن يرتكز على أحد المفهومين، ثم يخفف من حدة وقسوة التطرف بإدخال تشريعات، ولهذا فإن الاقتصاديات في العالم إما اشتراكية ذات لمحات أو توجهات رأسمالية، أو رأسمالية ذات توجهات اشتراكية، والسعودية ترتكز في بناء الاقتصاد على الفكر الرأسمالي لكنها لا تقوم بتخفيف وطأته بالنظام الاشتراكي بل بالتعاليم الإسلامية، ولهذا قلتُ لدينا اقتصاد رأسمالي ذو توجهات إسلامية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي