عالم يحتفي بالجودة.. عالم يطبقها
يحتفل العدو الصهيوني بمرور 40 عاما على تأسيس جمعية الجودة الإسرائيلية وبالمؤتمر الوطني العشرين للجودة، وتحتفل اليابان في أقصى الشرق بمرور 63 سنة على إطلاق جائزة ديمنج للجودة، وتفتخر جمعية الجودة الأمريكية بالولايات المتحدة في أقصى الغرب بمرور 65 عاما على تأسيسها. عزيزي القارئ كل ما سبق من احتفاء واحتفالات دولية بالجودة ومناشطها ومنظماتها في مختلف بلدان المشرق والمغرب لا يمكن أن يمر أمام ناظري المتأمل مرور الكرام دون أن يستثيره هذا التبني العجيب والاهتمام الكبير والاستدامة المستمرة خاصة عند المقارنة الخجلى بيننا وبينهم فيما نوليه من اهتمام بأمر الجودة من حيث المنظمات والتشريعات والبرامج والثقافة المجتمعية والمخرجات في المنتجات والخدمات لدينا ولديهم.
إن الجودة وبلا شك من أبرز معالم التطور العالمي الاستثنائي اليوم الذي صاحب وميَّز وساهم مساهمة بارزة في التطور التكنولوجي الباهر في شتى المجالات. ولذا يجب أن نعتقد اعتقادا جازما بأن الجودة واجب ديني ومطلب وطني.
نعم الجودة واجب ديني لأن الجودة معلم بارز في ديننا الإسلامي الحنيف فيكفيها رفعة اتصاف الله - سبحانه وتعالى - بها فهو "الذي أتقن كل شيء" بل وأرشد العقل البشري إلى الاهتداء بعظيم دقته وإتقانه في بديع صنعه وخلقه، ومن ذلك ما ضربه الله كمثال لذلك في أعظم المخلوقات السموات السبع التي أتقن صنعها بصورة لا تجد فيها أي تفاوت أو عيوب في مواصفاتها كما في سورة الملك فقال جل وعلا: "ما ترى في خلق الرحمن من تفاوت" مما يؤصل معنى سام ودقيق من معاني الجودة وهي عدم وجود التفاوت في مواصفات المنتجات أو الخدمات وهذا المعنى لم يصل إليه الجهد البشري بعد، فالعالم الإحصائي شوهارت عرف الجودة بقوله تقليل التفاوت Minimizing variation ولم يعلم أن الروعة والإبداع القرآني جعلها أعظم وأدق من تعريفه بعدم وجود التفاوت لا تقليله.
كما أن الجودة واجب ديني لأنها باب من أبواب التعبد والأجر فهي طريق لمحبة الله الذي "يحب إذا عمل أحدكم عملا أن يتقنه"، وكذلك لأن الله كتب الإحسان والإتقان على كل شيء سواء في الجانب الفردي أو الجماعي فمن فقدها فقد شيئا عظيما، وقد يكون هذا الفقد أحد أسرار أسباب التخلف لأمة الإسلام.
والجودة واجب وطني لأن الوطن جعلها شعارا ودثارا له من خلال رؤية واستراتيجية الوطن في الجودة والتي سطرها خادم الحرمين بجملته المشهورة في افتتاح فعاليات الملتقى الثالث للجودة بأن الجودة أصبحت في عصرنا الحاضر خيارا استراتيجيا للتقدم والنهوض بالاقتصاد، وقد دعا أيده الله جميع المسؤولين في جميع قطاعات الدولة إلى تبني مفاهيم وأسس ومعايير الجودة والتميز في جميع خططهم، وأنشطتهم، وأعمالهم، والحرص على التطوير والتحسين المستمر لتحقيق الجودة والإتقان في القطاعات الإنتاجية والخدمية الخاصة والحكومية.
والجودة واجب وطني لأنها من أهم السبل في إرضاء المواطن والمقيم بشأن تقديم الخدمات الحكومية فعن طريقها يمكن التعرف على رغباتهم ومتطلباتهم وتوقعاتهم وبالتالي تحقيقها بل وتجاوزها بكل إتقان.
ولأن الجودة واجب ديني وضرورة وطنية فلابد من توحيد الجهود وتعاضد السواعد من الجميع فالحاكم في حكمه والوزير في وزارته والمعلم والأستاذ في مدرسته أو جامعته والموظف في وظيفته والعامل في مهنته وكل مواطن في موقعه وعمله، فإذا استشعر الجميع مسؤولياته وحققها كما هو مطلوب منه وبالطريقة الصحيحة، ففي كل مرة سعد بنفسه وأسعد غيره في وطنه وألبس بلاده ثوب التقدم والرقي بعد إرضاء ربه ثم ولي أمره.
ولتحقيق ذلك كله أذكر باختصار أهم الأمور التي ينبغي على الوطن بمجمله وبمؤسساته وأفراده أن يعملها ويتبناها ويسعى لتحقيقها قولا وفعلا كما يلي:
1. تحويل كلمة وتوجيه خادم الحرمين ـــ رعاه الله - الآنفة الذكر بشأن الجودة إلى ميثاق وطني يقسم على تحقيقه كل مسؤول كان وزيرا أو من دونه ويحولها إلى خطط عمل وبرامج لها مؤشرات أداء يمكن تتبعها وتقييمها وتحقيقها.
2. تبني مجلس الشورى الموقر للجودة ومفاهيمها كمبدأ وشعار ومنهجية يعمل على تطبيقها في المجلس وإداراته المختلفة ومن خلال دراساته لقضايا المجتمع وتقييمه ومتابعته لجهود الوزارات والمنشآت الوطنية وأداء المسؤولين، ومما يساعد على نجاح هذه الجهود المأمولة أن يخصص المجلس مشكورا لجنة من لجانه ويضع عليها أكفاء من أبناء الوطن المختصين في مجالات الجودة علما وتطبيقا.
3. بما أن وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي هما أهم الوزارات التي تباشر التأثير في جيل المستقبل فلا بد أن تسعيا وتبنيا استراتيجياتهما على تبني وتطبيق وتعليم مفاهيم الجودة وتطبيقاتها وتحقيقها في أرض الواقع وغرسها في عقول وقلوب الناشئة والشباب لكي يسمو الجيل ويترعرع تحت دوحة الإتقان وحب الإتقان فيعشقها في حاضره ويتبناها في مستقبله.
4. مراجعة دور الهيئة السعودية للمواصفات والمقاييس والجودة المتعاظم والمتجدد مع تجدد مسؤوليها بالتركيز على نشر ثقافة الجودة وتطبيقاتها وأنظمتها من خلال سن التشريعات اللازمة والعقوبات الرادعة للمنشآت والأفراد فلا يكفي أبدا ما تقدمه اليوم من جهود وإن أضحت أفضل بكثير من سنوات ماضية فما زلنا ننتظر من معالي محافظها ورجاله الكثير والكثير خاصة أنها بيت الجودة الأول في بلادنا الغالية.
5. الدعم المستمر والمكثف للجمعيات والمنظمات غير الربحية في مجال الجودة كالجمعية الوليدة الجمعية السعودية للجودة التي لا تزال في مهدها، وكذلك للمجلس السعودي للجودة في المنطقة الغربية الذي عمل خلال العشرين سنة الماضية بجهود مضنية وخطوات تحسينية ثابتة آتت ثمارها في الأفراد والمنشآت الوطنية ورفع لواء الجودة محليا وإقليميا ودوليا باسم المملكة في المحافل الإقليمية والدولية مما كان له الأثر الطيب في تحسين سمعة منتجاتنا وخدماتنا الوطنية. ولو أنه وجد مزيدا من الدعم المعنوي والمالي الحكومي وغير الحكومي لحقق بإذن الله المزيد من النجاحات والخطط والبرامج التي حدد معالمها في استراتيجيته 2020. ويستلزم هذا الدعم الوطني لهذه الجمعيات قيامها بالتنسيق التكاملي والشمولي بينها والتعاضد في ذلك.
وأخيرا وبما أننا نؤمن جميعا بأن الجودة فريضة دينية ومهمة وضرورة وطنية، فهذا يجعلنا أكثر إصرارا على تحقيقها، وأشد عزما وصبرا على تعزيزها، وأكثر تفاؤلا بنجاحها ونجاح جهودها لكي تصبح أصفى فصائل دمائنا وأجود مشاعرنا وأرق وألطف كلماتنا وأنفع وأجل أعمالنا، وليكن حادينا: "إذا قامت القيامة وفي يد أحدكم فسيلة فليغرسها".