الجامعات الوليدة .. والحذار من آفة الترهل

أمر خادم الحرمين الشريفين بإنشاء ثلاث جامعات جديدة في كل من حفر الباطن، وبيشة، وجدة، حيث تم تحويل فرعي جامعة الملك فهد للبترول والمعادن، وجامعة الدمام، في حفر الباطن وفي المحافظات المجاورة، إلى جامعة مستقلة تسمى "جامعة حفر الباطن"، كما تم تحويل فرع جامعة الملك خالد في محافظة بيشة والمحافظات المجاورة إلى جامعة مستقلة تسمى "جامعة بيشة"، وتم أيضا تحويل فرع جامعة الملك عبد العزيز في شمال جدة إلى جامعة مستقلة تسمى جامعة جدة.
ونحن إذ نبارك للمواطنين في المحافظات المعنية هذه المكاسب الوطنية التي تحقق الرفاهية، حيث تقدم التعليم العالي الذي يشد إليه الرحال للناس في مقر إقامتهم. ولكننا نريد أيضا أن نحمي هذه المكتسبات من الفساد والجهل وسوء الإدارة وأن تستفيد الجامعات الوليدة من أخطاء الجامعات الأخرى ومن تجاربها الناجحة أيضا.
لقد خطت جامعاتنا العريقة منها والناشئة خطوات إيجابية وكونت لها هوية وأصبح لبعضها سمعة عالمية، إلا أنه وفي الوقت نفسه وقعت في أخطاء جوهرية، منها عدم وضوح الرؤية، والتوسع الأفقي والرأسي غير المدروس في الكليات، وإلغاء بعض العلوم ودمج بعضها الآخر، وربط التعليم العالي ربطا مباشرا بسوق العمل. كما واجهت عدة عوائق، من أبرزها النقص الشديد في القيادات الأكاديمية المدربة والشح في أعضاء هيئة التدريس الأكفاء. وإذا أردنا أن نلقي الضوء على هذه الإخفاقات فقد نحتاج إلى عدة مؤتمرات، لذا سيقتصر مقالي لهذا الأسبوع على الخطأ الأساسي، الذي أراه السبب الجوهري وراء التخبط الذي تعيشه بعض جامعاتنا في الوقت الراهن، ولن تتخلص منه حتى تعالجه من جذوره، ألا وهو التوسع العشوائي الأفقي والرأسي في التخصصات والكليات، الذي أدى إلى الترهل الإداري الذي ضرب مؤسساتنا الأكاديمية في مقتل.
تتمثل معضلة جامعاتنا فيما تحويه بين جنباتها من كليات ومعاهد ومراكز ولا ندري ما سبب هذا الاندفاع؟ فنمسي على ثلاثة أقسام ونصبح على خمسة، ونصبح على خمس كليات ونمسي على تسع، حتى أصبح من الصعب إدارتها ورقابتها، لدرجة أن بعض الجامعات تحوي بين جنباتها أكثر من 60 كلية بخلاف الجمعيات والمعاهد والمراكز العلمية والكراسي العلمية والكليات المساندة. وإنني أتساءل كيف تتحرك جامعة تضم بين جنباتها أكثر من 60 كلية بخلاف الكليات المساعدة وما يقارب من 50 ألف طالب وطالبة؟ كيف تضمن للمواطنين تعليما ذا جودة عالية؟ وكيف تراقب أداء أعمالها؟ وكيف تعرف توجهها نحو أهدافها واتباعها رسالتها؟ ولا ندري هل تعتقد جامعاتنا أن الكفاءة تقاس بعدد الكليات والإدارات والطلاب؟ إما أن عليها ضغوطا مجتمعية أو إرهاصات من مؤسسات أخرى كوزارة المالية التي تحدد ميزانية الجامعات، بناء على عدد الكليات؟ نحن لا ندري لماذا هذا التضخم غير المبرر في كليات الجامعات؟
لذا يجب على الجامعات الوليدة (بيشة، حفر الباطن، جدة) أن تبتعد عن زيادة عدد كلياتها حتى لا يصيبها ما أصاب الجامعات الأخرى، ولتعلم أن زيادة عدد الكليات عن الحد المعقول تصيبها بالترهل، والترهل آفة من الآفات التنظيمية وعاهة تصيب المنظمات ومنها الجامعات، وتؤدي إلى تفشي عدة أوبئة إدارية وتنظيمية، منها انتشار الفساد بكل أنواعه، وضعف المخرجات، وبعد الجامعات عن دورها الأساس، وصعوبة تحقيق معايير الجودة.
كما يجب على المسؤولين عن الجامعات الوليدة (بيشة، حفر الباطن، جدة) أن يعلموا أن الترهل الذي يفرزه الكم الهائل من الكليات يقود إلى عدد من السلبيات، والأوبئة، والأمراض الإدارية والتنظيمية مثل بطء الإجراءات وصعوبة تدفق البيانات من أعلى الهرم التنظيمي إلى قاعدته وبالعكس؛ نتيجة طول خطوط الاتصال، وصعوبة تبادل المعلومات بين الإدارات في المستوى الإداري الواحد، وكل هذا يجعل المؤسسة الأكاديمية بطيئة الحركة، متواضعة الإنتاجية، بعيدة كل البعد عن أساسيات الجودة ومعايير الاعتماد الأكاديمي.
ومن نتائج الترهل أيضا انتشار البيروقراطية البغيضة، والعيش في نظام مغلق لا يؤثر ولا يتأثر بالمجتمع، فالجامعات المترهلة تتحاشى فتح نافذة على المجتمع؛ لأنها تخشى من كشف سوأتها، فتلجأ إلى الوحدة والانكفاء على نفسها. ومن مشاكل الترهل صعوبة الرقابة، فلا تستطيع القيادات الأكاديمية في الجامعات المترهلة أن تضبط سير الأعمال، وقد ترى الفساد يستشري في جسدها دون أن تستطيع تحريك ساكن، فتغض الطرف عن كثير من الانحرافات الأكاديمية، والإدارية، والمالية بخلاف الجامعات المشذبة والرشيقة التي تمتلك القدرة على كشف الانحراف من بدايته، بل قد تتنبأ به قبل حدوثه. ومن أبرز مشاكل الترهل محاربة التغيير، والتبلد، وتكون التكتلات غير الرسمية التي يفضل تسميتها في أدبيات إدارة الأعمال بالتنظيمات غير الرسمية، وقد تفوق سطوتها التنظيمات الرسمية، فتؤثر في أغلبية قرارات المجالس الأكاديمية.
ومن أمثلة التكتلات غير الرسمية ما يسمى الفئوية، ومن أشكالها القبلية. فالقبلية تجد في الجامعات المترهلة بيئة خصبة للنمو، وعندما تتمكن القبلية من البيئة الجامعية يتم تصنيف منسوبيها من أساتذة وموظفين وطلاب على أساس قبلي. وقد تقبل القبلية وغيرها من إفرازات الترهل التنظيمي على مضض في المنظمات والإدارات غير التعليمية، أما أن تكون سجية مؤسسات التعليم العالي، فهذه هي الجاهلية بعينها.
وعندما تنتشر هذه الأمراض في الجامعات فستتحول بعد حين من الوقت إلى أعراف وقيم جامعية، ومن ثم تكون أحد أبرز مكونات الثقافة التنظيمية للجامعات، وعندها لن تستطيع قيادات الجامعات تفكيكها؛ لأن المكونات الثقافية للمنظمات تشبه إلى حد كبير المكونات الثقافية للمجتمعات، فلا يمكن التخلص منها بسهولة؛ لأنها تكونت خلال فترة طويلة نسبيا، وتحتاج إلى المدة نفسها لتفكيكها. وسأتوقف عند هذا الحد؛ لأن مناقشة الثقافات التنظيمية تقودنا إلى التعرف على ما يسمى بالحضارات الطائفية، وهذه مصطلحات تحتاج إلى عدة مقالات.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي