مراكز الأبحاث والتنبؤ بالمستقبل
تحتل مراكز الأبحاث مكانا بارزا في الدول الغربية. الحكومات والمؤسسات تستند إليها كثيرا في تقرير سياساتها لا سيما ما يخص الاقتصاد والشؤون العسكرية والخارجية.
ومصطلح "الدول الغربية" ضبابي ما لم يتم تحديد أطره وتعريفه. هنا أقصد دول أوروبا الغربية الأعضاء في السوق الأوروبية المشتركة إضافة إلى الولايات المتحدة وكندا وأستراليا ونيوزيلندا. هذه الدول غالبا ما تراها متفقة فيما بينها على مسائل كثيرة ولها ميزة مذهلة، حيث إن قادتها ومسؤوليها الكبار تراهم يحضرون شخصيا اجتماعات دورية لدولهم رغم مشاغلهم الكثيرة.
اجتماعاتهم لها ميزة عجيبة أخرى. إنها تبدو منظمة للغاية ومنسقة بعناية فائقة ونتائجها مدروسة بدقة. وأيضا هناك خاصية لا علم لي إن استشفها أو كتب عنها الإعلام العربي: قادة هذه الدول يمضون وقتا طويلا جدا لدراسة أي قرار يتخذونه إن تعلق الأمر بشعوبهم أو علاقتهم مع أقطاب دولية منافسة لهم.
ولكن إن تعلق الأمر بمسألة عربية أو إسلامية محددة تراهم يهرولون بسرعة إلى عقد اجتماع عام وينفض الاجتماع بسرعة وكلهم متفقون دون استثناء تقريبا. غالبية اجتماعاتهم وقراراتهم التي تخص الدول العربية والإسلامية ذات منحى سلبي نتائجه قد تكون كارثية للعرب والمسلمين.
هل للعرب والمسلمين دور في الموقف السلبي لهذه الدول من مجتمعاتهم وقضاياهم؟ بالتأكيد. وإن بحثنا عن السب لرأينا أن الدول العربية والإسلامية بصورة عامة قلما تستند إلى علمائها ومراكز أبحاثها الرصينة المستقلة ـــ إن كان هناك مراكز هكذا ــــ لتقرير سياساتها تجاه بعضها البعض وتجاه العالم الذي حولها ولا سيما تجاه هذه الدول الغربية التي قد لا نحتاج إلى عالم أو باحث للقول إنها لا تكن أي مودة لهم ولقضاياهم.
مراكز الأبحاث ـــ وأنا شخصيا أدير مركزا إعلاميا صغيرا في جامعة سويدية ـــ مهمتها تقديم دراسات رصينة ذات مصداقية لأصحاب القرار. قد لا تصيب دائما ولكن تمنح صاحب القرار مرونة كبيرة لأنها تقدم البدائل مع وتوصيات عديدة وأكثر من خطة للوصول إلى الهدف في حال فشل الخطة التي تقترحها.
هذه المراكز أغلبها مرتبطة بالجامعات والمعاهد العلمية التي تحرص على سمعتها ومكانتها وتقاوم التدخل في شؤونها أو التلاعب بنتائج دراستها لأغراض سياسية أو حزبية أو دينية أو مذهبية.
وأغلب هذه المراكز ــــ قلما ترى جامعة رصينة دون عدة مراكز أبحاث ــــ لها ميزانيات خاصة خارج نطاق الميزانية الجامعية لأن أغلب وارداتها تأتي من المنظمات والشركات والمؤسسات المدنية وغيرها إضافة إلى المحسنين من أغنياء القوم. فترى مثلا أن مدير المركز أو كبار باحثيه يرفقون اسم المؤسسة أو اسم العائلة التي تدعمهم بألقابهم العلمية تيمنا بهم وتثمينا لدورهم.
ومن المحسنين من يؤسس لكرسي الأستاذية في هذه المراكز يضاف إلى لقب الأستاذ أو المسؤول المباشر عن هذه المراكز وبعض هذه الكراسي صار لها عقودا ولها ميزانيات خاصة موضوعة جانبا يجري استثمارها كي تستمر إلى أطول فترة ممكنة.
وتسمع بين الفينة والأخرى أن العائلة أو الشركة أو المؤسسة الفلانية قد أسست كرسيا جديدا للأستاذية في إحدى الجامعات وخصصت له ميزانية كبيرة تتكفل بجميع مصاريفه من رواتب وأمور أخرى ذات علاقة بالبحث العلمي.
أسوق هذه الأمثلة كي أقول إن مراكز الأبحاث الغربية لا تحتاج إلى كثير من الجهد لقراءة الوضع مثلا في الشرق الأوسط للتنبؤ بما سيكون عليه حال دوله لأن الوضع غالبا ما يسير من سيئ إلى أسوأ. وهكذا عندما طُلب مني تقديم بحث عن وضع الإعلام العربي قبل نحو ثلاث سنوات لم أحتج كثيرا من الجهد لكشفه وتفسيره والتنبؤ بما سيكون عليه الحال في المستقبل، وكان مناسبة جيدة للبرهنة على نظريتي البسيطة في تحليل الخطاب والتي سميتها "الاستباق الخطابي".
أسوق هذه الأمثلة كي أقول لو كان للدول العربية والإسلامية - ولا سيما الشرق أوسطية مراكز أبحاث مستقلة ورصينة كما هو شأن مثيلاتها في الغرب وممولة تمويلا جيدا وأستأنس برأيها أصحاب القرار ورجعوا إليها قبل اتخاذ قراراتهم الصعبة لربما ما كان الوضع كما هو عليه اليوم.