أي بُنيَّ المُبتعث
في مجاهل بحر اليابان وفي سنة 1876 ولد الطفل هيديو نجوشي في إحدى الجزر الصغرى في اليابان لأسرة بلغ بها الفقر حدًّا جعل أباه يهجر أسرته حين علم أن طفلاً ثانياً في طريقه إلى الحياة! وأُهمل هذا الطفل إهمالاً جعله يسقط في مدفأة فاحترقت يده اليسرى حتى شاهت، وأوذيت يده اليمنى إيذاء كاد يفقد نفعها، فكان أن اجتنبه التلاميذ في المدرسة لما في جسده من وصمات وتشويه، فهمّ الصبيّ بالانتحار هربًا من مآسيه الجسدية والمالية والمعنوية، لكن الله صرف عنه ذلك, فقد قدم جرّاح نابِهٌ إلى القرية حينها، وعالج يده اليمنى علاجًا ناجعًا.
واعترف "نجوشي" للجراح بالجميل اعترافاً جعله يقرّر لتوّه أن يكرّس نفسه للطب, ومن ثمّ علاج المرضى والأخذ بأيديهم نحو العافية الجسدية؛ فمن رحم المعاناة يولد الإبداع.
فجدّ واجتهد, ولم يبال بمشاق التعليم وصعوبات الدراسة واختلاف اللغة وغزارة العلوم التي يحتاج إلى أن يهضمها أولا ليقف على قدميه في ساح الطب, فتقدّم وثابر بعزيمة وصبْرٍ يبزّ عظماء المخترعين, ومن أقواله عن نفسه محدّثًا لها وسائقًا لها لبر النجاح: سأكون نابليون الذي ينقذ البشرية, لا نابليون الذي يفتك بها، إنني أستطيع الآن أن أعيش معتمدًا على نعاس أربع ساعات في الليل.
وكان نجوشي مفلسًا، لكن متى كان الإفلاس عائقًا عن التحدّي العلمي؟ فعوّض هذا العصامي الفولاذي نقص ماله بزيادة جهده, فعمل في صيدلية على أن يكفل صاحبها مصاريف دراسته. وبعد أن تخرج في كلية الطب, سافر إلى الولايات المتحدة وعرض خدماته على الهيئة الطبية في الجيش في واشنطن مقابل نفقاته فقط؛ فقبلوه لتقديرهم للروح العلمية فيه, وهيأت له مؤسسة روكفلر للأبحاث الطبية معملا يجري فيه تجاربه وينجز أبحاثه بهدوء وجَلَد.
وشرع الشاب نجوشي يعمل وحده, لا يشاركه أحد على الإطلاق في إجراء التجارب والقيام بالبحث العلمي، فانتهى به ذلك الإخلاص والدَّأَبُ لقطف بعض أطيب الثمرات الخالدة في الطب الحديث؛ فهو الذي أنتج أول عينة خالصة من جراثيم الزهري، وكشف عن أثر الزهري في الشلل العام وفي الشلل البطيء, وأخيرًا استطاع في سنة 1918 أن يعزل طفيليّ الحمى الصفراء؛ فلما كسب الشهرة والثروة عاد هذا الوفيُّ لبلده اليابان، وكرَّم أمه العجوز، وجثا على ركبتيه أمام الصيدليّ الذي أنفق على دراسته الطبيعية اعترافاً له بالجميل.
ثم انطلق إلى إفريقيا - حيث الوباء الفتّاك - ليدرس الحمّى الصفراء التي كانت تفتك بساحل الذهب من أوله إلى آخره، فأصابته هذه الحمى التي صرعته بعدما نجح في كشف سرّها, ومات سنة 1928 عن 52 عامًا.
ولي ثلاث وقفات عجلى مع تلك القصة المؤثرة:
الأولى: لست بصدد نقد الابتعاث, فهو في مجملة رافد عظيم للتقدم الحضاري الدنيوي في المجالات التجريبية المختلفة, إنما أُسجّلُ تحفّظي على ابتعاث من هم دون سن النضج (وهو في العادة بعد المرحلة الجامعية) فقد أفرز هذا التساهل انحرافات فكرية وأخلاقية لدى بعض فلذات أكبادنا. كذلك أنبّه لضعف معيار الجودة النوعية في اختيار المبتعثين, وذلك بتدني سقف المقابلة والامتحان، ما نتج عنه ضعف ملحوظ في المستوى الدراسي لدى نسبة غير قليلة أثناء الابتعاث. وبالجملة فلا بد للمبتعث من حَصانتين: إيمانية لدفع الشهوات المحرمة, وعلمية لدفع الشبهات المضللة.
الثانية: التحول الاجتماعي والانقلاب الصناعي في أي أمة لا بد أن يسبقه تحوّل ثقافي أخلاقي إيجابي, وبحسب البعد المنهجي وعمقه للأمة يكون تسارع قطعها للمسافات الزمانية للرقي المدني الحضاري, مع التنبيه إلى ضرورة وجود الإرادة ثم الإرادة ثم الإرادة لدى المسؤولين لبناء ثقافة عمليّة (دراماتيكية) مجتمعيّة مستمرة, وليس مجرّد هبّات هنا وهناك, فيتفرّق الجهد وينقطع العمل, ما يثقل الكاهل بأعباء وتكاليف لم نكن في حاجة إليها لو وُجدت المتابعة الدقيقة والحزم الصارم مع المتلاعبين والمختلسين والانتهازيين ونحوهم.
ومن الثقافة المحتاجة إلى التعزيز لدينا: ثقافة الجديّة, والنظام, وعدم الاستنكاف من العمل اليدوي, ونشر ثقافة العصاميّة دون الشرانق المعتمدة على كدِّ والديها.
لقد احتاجت اليابان إبّان قفزتها الشاهقة السريعة من نظام الإقطاع إلى النظام الصناعي والتجاري إلى 15 عامًا فقط! (ما يعادل خمس خطط خمسية فقط في بلداننا اليوم) فاستدعت الخبراء الأجانب في مختلف فروع المدنيّة الصناعية الذين وجدوا في مساعديهم اليابانيين العطش العلمي للروح الصناعية, فشربوا علوم معلميهم وطبقوا تجاربهم - تحت أعينهم - فلم يمض 15 من الأعوام حتى صار المتعلّمون أقرانًا لمعلميهم, فابتدأوا صناعة وطنية يابانية نقلت اليابانيين من خيام الجلود والأكواخ إلى المصانع وناطحات السحاب, ومن بدائية المحراث والمطرقة لعصر الأجهزة المعقّدة.
ثالثًا: ليس الابتعاث دليل نقص في بلد المبتعث, فما زالت الحضارة تنتقل من بلد إلى آخر مع تغيير لغتها وملبسها, فهي لا تموت ولكن تنتقل, وقد كانت جامعات الأندلس تستقبل المبتعثين من بلاد أوروبا عقودًا طويلة, حتى كانت لغة العرب هي لغة العلم والثقافة وزيّهم هو لباس الحريّة والتنوير, حتى بين أولاد ملوك ونبلاء وأشراف ومثقفي أوروبا في ذلك الحين السعيد.
رابعًا: رسالة مودّة لسفراء بلادهم في الأخلاق والجديّة وحب العلم والعمل من المبتعثين من الجنسين:
أي بُني المبتعث: سلام الله عليك, وأسبغ عليك نعمه ظاهرة وباطنة, وأحاط دينك ودنياك بحفظه, وردّك لأهلك سالمًا غانمًا, خذ مني هذي الوصايا الموجزة التي دفقها الفؤاد المفعم بالمحبة لك وحسن الظن بك:
اعلم أنها سنين قلائل ستطوى سريعًا من تحت قدميك وسيترتّب على إنجازك لها مصير مستقبلك في حياتك, فأنت من تفصّل الثوب الذي ستلبسه غدًا بإذن الله.
واحفظ أمانة الله التي أودعكها وهي دينك, فمن فقد دينه فليس عنده شيء يُبكى عليه بعد, فاتق الله وعظّم شعائره وحرماته وحدوده, واحذر ذنوب الخلوات ومنها ما كان بعيدًا عن رقيب قومك, وقد أوصى أحد سلفك صاحبه حين سافر قائلا: لا يكن الله أهون الناظرين إليك. وإياك والمشتبهات الفكرية, وارجع لأهل العلم فيما أشكل عليك. ثم الزم الوسطية, واعلم أنها صراط الله, فكل من زاد فيها أو نقص منها فقد غوى.
وكن واضح الهدف, حسن التخطيط لبلوغه متحلّيًا بالجديّة والانضباط.
ولتكن حسن المظهر, نقيَّ المخبر, واسع الأفق, رحب الصدر, دمث الأخلاق, مراعيًا للمفاسد والمصالح, مفرّقًا بين المداهنة والمداراة, واترك أثرًا طيبًا في كل من تتعامل معهم, ولتكن خير سفير لدينك وبلدك وأهلك.
بارقة: جامعة الوصايا: اتق الله حيثما كنت "ألم يعلم بأن الله يرى" .