الأرشيف السري لمجتمعنا

سادت كلمة "الافتراضي" عنوانا لما يكتب في فضاء الإنترنت بجميع وسائل تواصله الاجتماعي. وصار هذا الفضاء بمثابة الأرشيف الكوني السري المتاح لكل المجتمعات ومنها مجتمعنا، إذ على الرغم من الإيجابيات الهائلة التي وفرها هذا الفضاء كحاضن كوني لا مناص منه ولا غنى عنه للتواصل والمعارف والعلوم وسائر الخدمات، إلا أنه، يمتلئ بالكتابات الجادة والمثيرة، كما يمتلئ كذلك بكتابات تثير الاشمئزاز لانفلاتها من شروط فن الكتابة أو من مسؤوليتها الأخلاقية أو من الاثنين معا
وإذا كان من المؤكد أن من حق الجميع التعامل مع الإنترنت، فإنه من المؤكد أيضا أن ليس بالإمكان الإملاء على الناس ماذا أو كيف يكتبون.. ما يجعل من هذا الفضاء انعكاسا لواقع حي معاش، ولذلك فهو فضاء "واقعي" وليس "افتراضيا"، كما يقال، فجمهوره بشر وليسوا أشباحا ويصدر عن حيز مكاني معلوم وليس عالما سديميا كما أن كل ما فيه من نصوص وصور وأصوات هي حقيقية وليست متخيلة.
يكشف هذا الفضاء الإلكتروني، بكل نوعية ما يكتب فيه من فكر جاد أو لغط حاد، عن ماهية المجتمعات ونحن منها: كيف نفكر؟ ما مواقفنا من إشكاليات الحياة وتعقيداتها؟ ما رؤيتنا لأنفسنا أو للآخر؟ كما يكشف عن أثر التربية والتعليم فينا ودور العادات والتقاليد، بل يكشف عن مفاهيمنا وقناعاتنا الروحية والثقافية والاجتماعية والاقتصادية ومدى تقديرنا للنظام والمؤسسية .. أي نوعية استجابتنا للعصر والحداثة وما نبديه من استعداد للخلاص من أغلال الماضي والانحياز إلى المستقبل .. ما يعني في النهاية أنه فضاء لعقلنا الجمعي، بفعلنا ورد فعلنا، وما إذا كنا نستثمره في اتجاهات تعمق هذا العقل وتثريه أم للهو وإزجاء أوقات الفراغ والتنفيس.
إنه إذا فضاء مشحون بالخطاب المجتمعي الصريح والمسكوت عنه، يقال بملايين المشاركين فيه نخبويا وشعبيا دون مواربة بأسماء حقيقية أو مستعارة .. ولذلك فهو ـ كما أشرت ـ أرشيف سري لمجتمعنا .. يقدم مجتمعنا للباحث والدارس مفضوحا، دفعة واحدة، بهواجسه ومخاوفه، بآماله وتطلعاته وجميع مواقفه من الظواهر والقضايا والأزمات التي يتأثر بها من الداخل أو الخارج وما يبديه إزاءها من تحفز أو لامبالاة .. وبالتالي الإمساك بنا متلبسين بسيكولوجيتنا وبمعالم هويتنا ويرسم صورتنا عارية بملامحها الحقيقية كما هي.
لقد عمد المفكر الفرنسي ميشيل فوكو في دراسة بعض خصائص الأمة الفرنسية إلى الحفر المعرفي بدراسة وقائع الجنايات في السجون وعمد آخرون إلى استبيانات ميدانية لدراسة المؤثرات والميول والغرائز، واتجه بعض آخر إلى الحالات النفسية كما ذهب بعض إلى استخلاص الهوية الاجتماعية من خلال الإنتاج الثقافي، على نحو ما فعل مورس بورا في كتابه "التجربة اليونانية" أو حنا إرنت في كتاب "الماضي والمستقبل". وهناك من تلمس طبيعة المجتمع من خلال الموسيقى كما فعل هنري لانج في كتابه "الموسيقى في الحضارة الغربية"، بينما حاول أرنولد هاوزر معرفة كنه التكوين الاجتماعي في علاقته بالفن في كتابه "الفن والمجتمع عبر التاريخ"، فيما ذهب جون برنال إلى إبراز دور العلاقة الجدلية بين تطور المجتمع وتطور العلم في كتابه "تاريخ العلم"، وكلها مسارات لتشخيص الفعل الاجتماعي، إنتاجا وسلوكا، ودوره في الهوية سلبا وإيجابا .. فهل سيشكل فضاء الإنترنت للباحثين والدارسين عندنا، إغراء بعدما تقاعسوا عن دراسة مجتمعنا بالأدوات والمصادر التقليدية فنرى ما لم نره بعد؟ أقول: عسى ولعل .. فما زلنا لا نعرف مَن نحن ومَن نكون؟

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي