احذروا كَسْرَ الباب (2 من 2)

.. تحدثت سابقًا عن فضل معاوية رضي الله عنه وكون عِرضِهِ بابًا وسِتْرًا، ومِن ثَمّ قنطرة لسبّ الصحابة رضي الله عنهم.. ونكمل الحديث ببيان أن معاوية من سادة الصحابة ــــ رضي الله عنهم ــــ، فلا بد إذن من النظر لما روي عنه بعدل، نظرة شمولية كلية لا مجرد صور مجتزأة من سياقاتها، أو روايات مفردة من مجمل الأحداث المؤثرة فيها. فما ورد مما شجر في فتنة الاقتتال له محامل يجدها سليم الطوية على الأصحاب كلهم، كتأخير المبايعة للاقتصاص من القتلة دون طلب الخلافة، ثم دخول أهل الفتنة بين الفريقين، ولله في ذلك حُكْم وحِكَم، ونحو ذلك مما أورده الأئمة من معاذير له ولأصحابه ترفعهم فوق مستوى شبهات حب السلطة ونحوها، إنما هي أولويات رأوا تقديمها مع عدم علمهم بما سيترتب على ذلك من مآسي، فمعلوم أن ثّوَران وتسارع الأحداث الكبار تجعل حليم القوم حيران، مع التسليم بأن أَولى الطائفتين بالحق هو عليّ ـــ رضي الله عنه.
كذلك ما ذُكِر من تولية ابنه يزيد لما ظنّه يؤول لحفظ بيضة الأمة من التصدع ووحدتها من الانشقاق بعدما رأى أنهار الدماء من قبل، هذا وقد نتفق أو نختلف مع رؤيته ولكن لا بد من أخذ هذه الغاية الجليلة في الاعتبار. فابنه يزيد ليس كما رواه الإخباريون واتهمه أعداؤه به من الفسق واللهو والفجور، فهو من جملة التابعين وله سياسته وحزمه لولا تساهله مع قتلة السبط الشهيد الحسين ـــ رضي الله عنه ــــ، وعدم اقتصاصه منهم، فقد اكتفى بسبهم ولعنهم، ولم يثبت أنه أمر بذلك أو فرح به أو أهان أهل الحسين بل أكرمهم، وأشنع من ذلك فعله بأهل الحرة، وهو الجرم الذي لا يُمحى، مع ذلك فهو من جملة المسلمين وهو قائد الجيش الذي قال ــــ صلى الله عليه وسلم ــــ فيهم إنهم قد أوجبوا. فالعدل أن نَكِلَ أمره إلى الله وقد أفضى إلى ما قدّم.
ويروي ابن كثير أن عبد الله بن مطيع مشى من المدينة هو وأصحابه إلى محمد بن الحنفية فأرادوه على خلع يزيد فأبى عليهم، فقال ابن مطيع: إن يزيد يشرب الخمر ويترك الصلاة ويتعدى حكم الكتاب. فقال محمد: ما رأيت منه ما تذكرون، قد حضرته وأقمت عنده، فرأيته مواظباً على الصلاة متحرّياً للخير يسأل عن الفقه ملازماً للسنة. قالوا: ذلك كان منه تصنعاً لك، فقال: وما الذي خاف مني أو رجا حتى يظهر إليّ الخشوع؟ ثُمَّ أفأطلعكم على ما تذكرون من شرب الخمر؟ فلئن كان أطلعكم على ذلك فإنكم لشركاؤه، و إن لم يكن أطلعكم فما يحل لكم أن تشهدوا بما لم تعلموا. قالوا: إنه عندنا لحق وإن لم نكن رأيناه، فقال لهم: أبى الله ذلك على أهل الشهادة، ولست من أمركم في شيء.
قلت: ولا شك أن الخطأ في العفو خير من الخطأ في العقوبة، فمظالم العباد شأنها عظيم، وكم لدماء الموتى من لاعق!.
وقال شيخ الإسلام: افترق الناس في يزيد بن معاوية بن أبي سفيان ثلاث فرق طرفان ووسط.. والقول الثالث: أنه كان ملكاً من ملوك المسلمين، له حسنات وسيئات، ولم يولد إلا في خلافة عثمان، ولم يكن كافراً، ولكن جرى بسببه ما جرى من مصرع الحسين وفعل ما فعل بأهل الحرة، ولم يكن صحابياً ولا من أولياء الله الصالحين. وهذا قول عامة أهل العقل والعلم والسنة والجماعة. ثم افترقوا ثلاث فرق: فرقة لعنته، وفرقة أحبته، وفرقة لا تسبه ولا تحبه، وهذا هو المنصوص عن الأمام أحمد وعليه المقتصدون من أصحابه وغيرهم من جميع المسلمين.
قلت: فأمير المؤمنين معاوية رضي الله عنه رأى أنه إن مات ولم يستخلف فستعود الفتنة جذعة، وهذا ما لا يطيقه مؤمن، فاستشار أهل الشام، فاقترحوا أن يكون الخليفة من بعده من بني أمية، فرشح ابنه يزيد، فأجابه أهل الشام ومصر وغيرهم، ثم أرسل إلى المدينة يستشيرها فخالفه الحسين وابن الزبير وابن عمر وعبد الرحمن بن أبي بكر وابن عباس ـــ رضي الله عنهم - وكلهم أفضل من ابنه، ولعله خاف الافتراق والاختلاف فألزمهم بيعته، وخاصة أن مع ابنه مزيّة الجند والكثرة والخؤولة، فظن أن سيُحسم الأمر قبل التفاقم.
وبالجملة فمن انطلق من قلب سليم وفرح بوجود العذر؛ فسيجد لمعاوية أعذارًا فهو من جملة المجتهدين، ومن اجتهد بعدل كان بين الأجر والأجرين، وأما من بدأ بسريرة غشٍّ ودغل؛ فسيجد من المرويات المرسلة ما يُطعم حقده، والله الموعد. ثم يأتينا اليوم مِنْ فَجَرة الفَسَقة من يحكم عليه بالنفاق والردة! ألا شُلَّ لسانُ من لَحِقَ الآل أو الأصحاب بسوء.
شاهد المقال أمران:
أحدهما: أن معاوية رضي الله عنه بابٌ للصحابة، فمن رام كَسْره استباح سبهم ولو بعد حين. والثاني: أن من نظر لسيرته بعدل وسلامة سريرة فسيجد له محامل حسنة في اجتهاداته التي قد يختلف معه فيها، فباب اجتهاد أمثاله من الكبار واسع، وخاصة في مسألتي قتال علي رضي الله عنه، وتولية ابنه يزيد من بعده.
ومضة: كل قبح يتلاشى في العين مع التعوّد.. حتى قبح المعصية!.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي