«الختم السابع» .. والإنسان المتوجع من الأسئلة الكبرى

«الختم السابع» .. والإنسان المتوجع من الأسئلة الكبرى
«الختم السابع» .. والإنسان المتوجع من الأسئلة الكبرى
«الختم السابع» .. والإنسان المتوجع من الأسئلة الكبرى

اختيار التحفة السينمائية فيلم "الختم السابع" المنتج في عام 1957 لاستعراضه في هذه الزاوية السينمائية لهذا الأسبوع يثير تساؤلاً من شقين.
الأول، كيف يمكننا الحديث عن الفيلم دون الانجرار حول متعة الحديث عن مخرجه "الفيلسوف" السويدى الراحل أنجمار بريجمان، وبالتالي حول ماذا كان يستحق نقاشه في زاوية "بورتريه" الأسبوعية التي تجاور هذه الزاوية بشكل مستقل كتجربة إخراجية. والآخر، أن أفلام بريجمان في الواقع هي ليست قصصا محكية بقدر ما هي سرد بصري يزاوج بأناقة بين المدرسة المسرحية والسينمائية والفلسفية.
لكن لِم لا يكون شيئاً من هذا وذاك إلى أن نُفرِّغ له قراءة مستفيضة كسيرة ذاتية في موضوع مستقل مستقبلاً؟

#2#

#3#

بريجمان إحدى بوابات أوروبا المعرفية في بدايات القرن الـ 20، قرن حصاد قرون "التنوير الأوروبية". وأحد أهم مخرجي سينما "الأسئلة الكبرى". أسئلة الموت، الوجود، الوحدة، العزلة، الحب، الدين، الفزع الإنساني من المصير المحكوم بالعدمية.
حسناً، هو ليس فناناً كئيباً لهذه الدرجة، فكل تلك الأفكار تناولها من أكثر من جانب، طرفها المشرق أحياناً وطرفها السوداوي في أحايين أخرى، ولكن أليست هذه هي الحياة؟ وخزة من هذا ونقرة من تلك؟
بريجمان عاش زهرة شبابه في المسرح الملكي لاستوكهولم، وكانت هذه لمسته الخاصة، المزاوجة بين المسرح وديكوراته والكاميرا السينمائية، ورغم أنه أخرج ما يزيد على 50 فيلماً حصد كثير منها الجوائز العالمية في أكثر من محفل إلا أنه عاد لينهي حياته في المسرح من جديد. ووصف قراره في حينه بأنه "المكان المناسب لحصان متعب مثلي".
فيلم "الختم السابع" تدور قصته في عجالة حول فارس "صليبي" يعود من الحملة الصليبية، بعد عشر سنوات من غيابه، إلى بلده السويد الذي كان يحتضر في ذلك الوقت من الطاعون الذي فتك بأرواح الملايين من البشر. يقابل هذا الفارس في طريقه للبيت الموت "متجسداً في هيئة بشرية"، ويستطيع الفارس أن يتحايل على الموت بتأخير موته من أجل أن يلعب معه لعبة شطرنج.
في أثناء اللعب يسأل الفارس الموت أسئلة وجودية عن الإيمان، وعذابات البحث عن الحقيقة. إنها الأسئلة ذاتها التي سألها الشبان الأوروبيون بعد الحرب العالمية الثانية، لماذا تدعنا الحياة نعاني ونُعذب هكذا؟ لماذا يهلكنا الطاعون بينما لم تكن الحملة الصليبية إلا في خدمة قيم مقدسة؟
يجسد دور الفارس الممثل السويدي المبدع "ماكس فون سيدو" الذي لم يبتسم قط طوال مشاهد الفيلم، فليس في كل هذا "الألم" وعبثية الوجود ما يستحق الابتسام، بينما يجسد دور "الموت" الممثل "بنكت إكروت" في أداء رفيع، تظهر الصورة اللامبالية للموت وهو ينتزع الأرواح بلا ذرة ندم، الأرواح التي لا تساوي عنده أكثر من لعبة شطرنج لم يفز بها أحد منذ الأزل سواه ولن يفوز بها أحد، والجميع فيها ليسوا سوى بيادق.
يطرح هذا الفيلم الفلسفي "المتوجع" موقف الإنسان أمام الطبيعة غير المؤنسة، الطبيعة التي لا تملك العواطف التي يملكها البشر.
ربما يكون أحد أجمل التوصيفات النفسية المحاكية لهذه الفكرة وردت في كتاب الدكتور المصري مصطفى حجازي "سيكولوجية الإنسان المقهور".
يقول حجازي في توصيفه لهذه الحالة: "يعيش الإنسان المقهور في عالم من العنف المفروض. عنف يأتي من الطبيعة وغوائلها التي لا يستطيع لها ردعاً. والتي تشكل تهديداً فعلياً لقوته وأمنه وصحته "الجفاف، الفيضانات، الحريق، الأمراض والأوبئة، الحروب... إلخ". هذا العنف يجعله يعيش في عالم الضرورة، في حالة فقدان متفاوت في قدرته السيطرة على مصيره. إنه اعتباط الطبيعة عندما تقسو دون أن يجد وسيلة لحماية ذاته، للشعور بالأمن إزاء ما تشكله من تهديد. إنه يفتقر سلاح المجابهة".
بالعودة لفيلم "الختم السابع" تتجلى مقدرة الممثلين الفارس "فان سيدو" والموت "بنكت إكروت" ومن خلفها بالطبع مخرج العمل بريجمان، في قدرتهم على إدارة حوارات رغم عمقها إلا أنها تلقى على أنها نقاشات عبثية لا طائل منها طالما جميعنا، المشاهدون وفريق العمل، نعلم النهاية المحتومة لهم ولنا يوماً ما.
غير أن زوايا الإخراج المسرحي للفيلم "السينمائي" تظل ملمحاً بارزاً، وربما هذا العمق المسرحي ما يفسر غياب الملامح السينمائية الأصيلة من موسيقى تصويرية توازي عظمة الفيلم.
الانشغال بالحس الإبداعي الإخراجي والسردي والحواري والتمثيلي جاء على حساب بقية المؤثرات السينمائية المعتادة، غير أن هذا بالطبع لا يقلل من قيمة الفيلم، خصوصاً إذا ما أخذنا في الحسبان أن عالم السينما من الأساس ظل يعيش قفزات حقيقة في سعيه للتكامل الحسي.
فيلم "الختم السابع" ليس عملاً عابراً في تاريخ السينما الحديثة، ويجب ألا يكون. فالسينما كمنتج حضاري أشهر وأعمق ما أبدعه الحس البشري المرهف كوسيلة للتوجيه الجماعي.
هو ليس توجيهاً قسرياً حتماً، لكنه توجيه إلى أن هناك دائماً زوايا رؤية جديدة لكل شيء، وأن على الجميع أن يتواضع أمام قناعاته مهما بدت راسخة. فللحقيقة أكثر من "صورة" والأسئلة أكثر من الإجابات دائماً.

الأكثر قراءة