ثقافة وفنون

الفن التشكيلي تجارة أم إبداع؟

الفن التشكيلي تجارة أم إبداع؟

حسب المعايير الجديدة لأسواق الفن العالمية، فإن المبدع الحقيقي هو من ينجح في بيع أعماله بملايين الدولارات في المزادات والمعارض الفنية دون الحاجة إلى إجماع النقاد ولا حتى إعجاب الجمهور. منطق غريب في حداثته، لكنه شائع بقوة في مجال الفن التشكيلي. أن تحطم بعض الأعمال الفنية أرقاماً قياسية دون أن يتمكن أحد من تحديد قيمتها الفنية بمعايير واضحة ولا حتى رسم حدود بيّنة بين الإبداع والذوق الرديء, فذلك مدعاة لتساؤلات حقيقية حول هذه السوق الجديدة. فجيف كونز الفنان التشكيلي المعروف لم يكن يتصور أن القيمة النقدية لبالونه الأرجوازي المعلق (23 مليون دولار) ستتوجه يوماً ملكاً على المزادات الفنية بلا منازع وتجعله من أصحاب الملايين، ولا البريطاني داميان هيرست كان يتوقع أن تصل قطعته المسماة الجمجمة المرصّعة بالجواهر إلى سعر خيالي يساوي 100 مليون دولار. هذه الصعوبة في تحديد القيمة الفنية لأعمال بعض المبدعين التشكيليين تؤرق كل الوسط الفني، يشرح ألان كومان الباحث في جامعة باريس 8 ومؤلف كتاب: "نجوم الفن التشكيلي" (دار نشر سي إن آر إس) في ميكروفون إذاعة فرانس كولتور: "عندما نرى الأسعار التي وصلت إليها أعمال فنانين كبار كجان ميشال باسكيا أو أندي وارول، فهذا أمر قد يسهل تفهّمه، على اعتبار أنهم رحلوا عن هذا العالم وأعمالهم أصبحت محدودة العدد ونادرة، فأعمال باسكيا المطروحة في السوق لا تتعدى الخمسة أو السّتة فقط. لكن ما يصعب استيعابه فعلاً هو قيمة أعمال بعض الفنانين الأحياء، التي باتت تراوح بين مليونين و25 مليون دولار، ولا سيما أن أعمارهم لا تتعدى الخامسة والأربعين، وهم قادرون على إنتاج أعمال أخرى كثيرة. بكم يفترض أن تباع إبداعاتهم الأخرى ومشوارهم الفني ما زال طويلاً لم ينته بعد؟ لماذا هذه الأسعار الخيالية وأعمالهم ليست بالنادرة؟ المعايير المعتمدة من قبل كالقيمة الفنية للعمل، قوة الطرح وندرة العمل لم تعد قائمة، منطق السوق خلط كل الأوراق ودخول المضاربين هذا المجال جعل الرؤية ضبابية وغير واضحة. ترى كاترين لامور، وهي مخرجة شريط "الاندفاع نحو طريق الفن" (إنتاج شركة لي بواسون فولان): "انفتاح الفن التشكيلي على مختلف الحساسيات: الجغرافية والعرقية والاجتماعية، جعل معايير تقييم التحفة الفنية مختلفة، فإضافة إلى القيمة الجمالية يؤخذ في الاعتبار الإيقاعية والبناء والتصور. الفنان التشكيلي اليوم لا يريد جلب الأنظار بجمال عمله، بل بقوة طرحه، بل إن بعض الفنانين يعتبرون أن العمل القوي هو ذاك الذي يفلح في "لسع" الجمهور وإيقاظ الضمائر النائمة. سوق الفن التشكيلي .. نجاح أكيد أولى الملاحظات أن مجال الفن التشكيلي لم يكن كما توقعه البعض فقاعة مضاربين، فهو لم ينجُ فقط من الانهيار بعد أزمة "السوبرايم" 2008/2009 التي هّزت العالم، بل أصبح بعدها أقوى من ذي قبل وهو يحقق النجاحات تلو الأخرى منذ أواخر الثمانينيات. والدليل الأرقام الأخيرة لمؤسسة آرت برايس، التي كشفت أن أرباح سوق الفن التشكيلي ارتفعت بنسبة 15 في المائة لموسم 2012/2013 متجاوزة سقف المليار يورو وهي سابقة أولى من نوعها، ولا سيما أن القطاعات الفنية الأخرى لم تعرف تطورا كهذا. فمبيعات الفن المعاصر مثلا تراجعت بنسبة 9 في المائة بين 2012 و2013. تطور سوق الفن التشكيلي مذهل وسريع، ففي ظرف عشر سنوات قفزت إيرادات مبيعاتها من 75 مليون يورو إلى مليار يورو. النجاح يجّسده أيضاً الإقبال الجماهيري الكبير الذي تشهده معارض الفن التشكيلي حتى أصبحت أكبر العواصم العالمية تتسابق لتنظيم معارضها: مليون زائر لمعرض باريس (لا فياك)، 400 ألف لبينالي البندقية، 500 ألف زائر لمعرض سيدني و100 ألف لأحدث معرض أقيم في العاصمة التركية إسطنبول. يشرح الباحث آلان كومان صاحب كتاب "نجوم الفن التشكيلي": "الإقبال نحو اقتناء أعمال تشكيلية قد يكون بدافع الهواية والميول الفني، لكن أيضا لأسباب اقتصادية، حيث إن الاستثمار في مجال الفن التشكيلي بات ملاذا مربحاً لكل من يخاف غدر السوق. حتى إن مصارف كبيرة عدة أصبحت تنصح زبائنها اليوم وتدفعهم نحو اقتناء أعمال تشكيلية لأن أرباحها أضمن من العقار ومن الكاكاو أو الذهب وهي خالية من الضرائب. وخلافا للفن المعاصر الذي يغلب عليه الطابع النخبوي يبدو الفن التشكيلي سهل المنال ويمكن لأي شخص اقتناء قطعة فنية ببضعة مئات من الدولارات لإثراء مجموعته الخاصة أو على أمل مضاعفة قيمتها بعد سنوات. تضيف الصحافية كاترين لامور التي أنجزت شريطاً مصوراً حول هذا الموضوع: "الفن التشكيلي حقق حلم الرأسمالية وهو الوصول إلى تحقيق قيمة مضافة، دون الحاجة إلى إنتاج الثروات.. فهل كان المضاربون يحلمون بأكثر من هذا؟". سوق الفن في قبضة المقتنين تدفق الأموال في سوق الفن التشكيلي يعود - بحسب جان فيليب دوماك صحافي ومؤلف كتاب "الفن المعاصر" (دار نشر ميشال لافون) – إلى ظهور أجيال جديدة من المجمّعين الأغنياء المنحدرين من الدول الناشئة كالصين وروسيا والهند. عددهم قفز في ظرف عقد من الزمن إلى 70 مليون مجمّع، وهم يتمتعون بقدرة شرائية هائلة ويقتنون الأعمال الفنية بلا حساب لاعتقادهم أن امتلاكها قد يعّزز مركزهم الاجتماعي ويضفي عليه بعداً جذابا. ويشرح الصحافي الفرنسي: "في هذه الأوساط التي تطغى فيها مشاعر العنجهية والغطرسة إحساس غريب بأنه كلما كانت التحفة الفنية غالية كان ذلك أحسن، لأن هذا يعني أن صاحبها أهل لأن يلحق بناد خاص بقلائل المحظوظين وليس مهماً أن تنال هذه التحفة إعجابهم بقدر ما يُهم أن تكون من إمضاء فنان ذائع الصيت يكون حديث سهراتهم". لكن مَن يصنع الحدث فعلاً في سوق الفن؟ يقول تيري إرمان مؤسس "آرت برايس" هم قلّة قليلة من المجمّعين الكبار. فهي من تحدد قيمة فنان وتدفع به في مقدمة المشهد الفني، كما فعل تشارلز ساتشي قبل عشر سنوات مضت حين قرر الترويج لمجموعة من الفنانين الشباب (يونج بريتيش أرتيست) وبيع أعمالهم الفنية كما "يباع مسحوق الغسيل" حسب تعبير صاحب شركة الإعلانات العملاقة نفسه. يتساءل تيري إرمان: "هل كان لجيف كونز أن يصبح ذالك النجم التشكيلي المعروف دون رعاية من فرانسوا بينو المجمّع الفرنسي وصاحب دار كرستيز الذي أخذه تحت جناحه وحرص على تقديمه للجمهور والإعلام. وماذا سيكون داميان هيرست لولا "لاري غاغوسيان" الغاليريست الكبير الذي كان أول المعجبين بأعمال الفنان البريطاني؟ وهل كان أندي ورول ليصل إلى العالمية لولا المليونير جوزي مغربي الذي موّل أول معارضه واقتنى أكثر من 800 قطعة من تحفه؟ يكتب الباحث الفرنسي جون كلير في مؤلفه "خريف الثقافة" ( دار نشر فلاماريون): في الفن التشكيلي لا يعتبر العمل اليوم تحفة لأنه جميل أو ذو قيمة فنية عالية، بل لأن مجمعًا أو رجل أعمال ثريا قد قرّر أن يصبح كذلك. الفن أصبح سهماً من أسهم البورصة والفنانون رهينة لأسواق المال بعد أن أحكمت المزادات والمعارض العالمية قبضتها عليه. فنانون أم تجار؟ يشرح باحث الاجتماع آلان كومان في كتابه "نجوم الفن التشكيلي" (دار نشر سي إن آر إس): "لم يعد محظوراً على الفنانين إظهار حبهم للمال كما كان شائعا في الماضي. الفن التشكيلي أسقط الكثير من المحظورات وأهمها التفكير بمنطق الربح والخسارة، كما أن تدفق الأموال في مجال الفن لم يعد سوى تعبير لاعتراف المجتمع بقيمة الفنان الذي ظلم وعاش طويلاً محروما من كل شيء". أول الفنانين الذين أعلنوا تحررهم من عقدة المال كان أندي وارول وأعماله التي تحمل إشارات قوية لرأس المال والمجتمع الاستهلاكي أهمها مجموعة الدولار ساين- أو الدولار بيل (1981) وهو صاحب المقولة الشهيرة: "كسب الأموال فن، العمل فن، أما إبرام الصفقات فهو فن كبير...". هذه العلاقة الخطيرة بين المال والفن جسّدها بعده جيل جديد من الفنانين التشكيليين ممن استطاعوا تكوين ثروات طائلة من وراء نشاطهم الفني. أهمهم على الإطلاق الأمريكي جيف كونز الذي ارتفعت قيمة أعماله بصورة مذهلة ابتداء من الثمانينيات إلى أن بلغت ذروتها عام 2013 حين حطمت قطعته "ثي بالون دوكز" البرتقالي رقماً قياسياً في مزاد نيويورك الأخير في تشرين الثاني (نوفمبر) حيث بلغت قيمتها 58 مليون دولار، وهو يعد حسب المجلة الأمريكية "فوربز" من أغنى فناني العالم، حيث تقدر ثروته الشخصية بنحو 500 مليون دولار. كونز الذي كان وكيلاً في بورصة وول ستريت عرف كيف ينظم نشاطه الإبداعي وكأنه صاحب مصنع حقيقي. حيث يوظف 150 متعاونا في ورشة تنجز حسب الطلب نسخا مصغرة من أعماله مقابل أسعار معقولة حيث يمكن لأي شخص أن يقتني نسخة من القلب الأرجوازي المعّلق (23 مليون دولار) مقابل مبلغ 500 دولار. الحّس التجاري نفسه يملكه أيضاً الفنان البريطاني داميان هيرست صاحب قطعة "القرش" الشهيرة أو "الجمجمة المرصّعة بالجواهر"، الذي يملك كزميليه الأمريكي ورشاً خاصة تنجز نسخاً طبق الأصل من أعماله حسب الطلب. داميان هيرست يوصف برجل الأعمال البارع، حيث إنه نجح في تنظيم عملية بيع أعماله الفنية بنفسه دون اللجوء إلى وسطاء محققاً أرباحاً قياسية بلغت 149 مليون دولار في يوم واحد.
إنشرها

أضف تعليق

المزيد من ثقافة وفنون