قصة وعبرة ويوم مشهود ....!!

إنه ركب الطاغوت و جيش الظالم مدعي الألوهية و الجبروت ،
مائة ألف فارس على مائة ألف أدهم بخلاف العبيد و الخدم ،
إنه ركب فرعون .
ابتسامة عريضة تعلو شفتيه الغليظتين و قد بدا له مبتغاه من بين سحائب الغبار التى تثيرها سنابك خيله و رجله ،
ها هو الجمع يظهر من بعيد على ضفاف بحر بلاده ،
ليس لهم من ملجأ منى الآن ؛
هكذا قال لنفسه ،
الآن حان وقت الخلاص من أولئك المتمردين الذين يشككون فى ربوبيته ، و يزعزعون ركائز أسطورته ،
آن الأوان ليكونوا عبرة لمن يأتى خلفهم و تسول له نفسه أن يحذو حذوهم ،
ازدادت ابتسامته اتساعا و هذه الأفكار تتردد فى ذهنه متذكرا أحداث الساعات و الأيام السابقة ،
نشوة رهيبة تملأ صدره العريض حين استرجع قدرته على تشويه موسى و من معه ببعض كلمات استخف بها قومه فأطاعوه ،
إن هؤلاء لشرذمة قليلون ،
هكذا حقرهم و سفه من شأنهم أمام قومه ،

إنها بضع كلمات خدع بها شعبا من المستخفين استحقوا أن يكونوا بذلك من الفاسقين ،
و ها هو قد دنا من بغيته و اقتفى أثر عدوه و اقتربت المواجهة التى اشتاق إليها منذ أعوام أذله فيها موسى مرة تلو أخرى،
نعم أذله ،
حتى ولو لم يعترف بذلك أمام أحد ، لكنه كان يوقن بذلك فى قرارة نفسه،
لقد هزمه فى كل تحدٍ ،
علا عليه فى كل مفاصلة ،
و هل ينسى يوم النيروز ؛
يوم الزينة حين ألقى سحرته ساجدين و آمنوا برب موسى و هارون ،
يا له من يوم محرج و وصمة عار فى تاريخه ،
صحيح أنه أطاح بأولئك السحرة المتمردين المتآمرين لكن المرارة لم تفارق حلقه قط ؛
مرارة الهزيمة و فزع المشهد حين رأى عصا موسى تلقف أفاعى أتباعه ،
و المرارة الأكبر حين اضطر أن يبعث لموسى يرجوه أن يدعو ربه ليكشف الرجز و المجاعة و الآفات التى حلت بقومه ،

ها قد حانت لحظة الانتقام ،
سيذكر التاريخ طويلا هذا اليوم و سيجعل عاشوراء عيدا يحتفل به المصريون و يتذكرون كيف نكل إلاههم بهؤلاء المتمردين الذين يبدون قليلى الحيلة من بعيد،
لكن .. ما هذا ؛
ما هذا الذى يحدث للبحر ؛
ما هذا الصوت الهادر الذى يصم الآذان ؟!
تسمر الجيش فى مكانه ، و جفلت الخيل ، و كادت أن تسقط براكبيها لهول المشهد ،
إنه الموج يتعالي ،
ما يحدث وتراه العين شيء مستحيل ؛
لقد صار الموج يصافح السحاب و كأنه طود شاهق !
هلموا أيها الرعاع ،
تحركوا،
أدركوهم ،
لا يمكن أن يفلتوا هذه المرة ،
أسرعوا فلقد كادوا يغيبون عن البصر و تطويهم ظلال جبلى الماء ،
هيا اقتحموا ، ما لكم تترددون ؟
إن كان موسى قد عبر فما يمنعنا من العبور خلفه ؟!
إنها مجرد ظاهرة طبيعية لعلنا فقط لم نسمع بها من قبل ،
هيا أيها الجبناء ،
ها أنا أتقدمكم و لا يرهبنى هدير الماء و لا ظلال متجول الحيتان ،
تقدم الجند على مضض حين رأوا قائدهم الأحمق يقتحم تلك المخاضة المرعبة ،

إنهم يعلمون جيدا أن هذه معجزة جديدة من معجزات موسى فكيف يأمنون ألا تسلط عليهم ؟
يا لكبر قائدنا و غروره !
هلموا أيها الجبناء ،
رددت جبال الموج صيحة قائدهم يستحث خطاهم للحاق به فى قعر البحر المشقوق ،
بدأ القلق يخبو شيئا فشيئا و قد صاروا فى منتصف المسافة تقريبا ، و ظهرت أ ضواء الضفة الأخرى على مرمى البصر ،
ها قد اقتربنا و يبدو أنه قد صدق قائدنا ،
أسرعوا الخطي فهاهو موسى و قومه يظهرون على الضفة الأخرى و قد عبروا بسلام ،
وفرعون يحث الخطي و يكاد يطير بفرسه ،
هل هو قلق ؟
هل هو خائف أن نكون وحدنا بين جبلى الماء ؟
أين ثقته التى كانت تقطر من حروفه منذ قليل حين حمسنا للدخول ؟!
فجأة : التأم البحر، انطبق ،
هكذا وبدون مقدمات ،
عاد البحر لسابق عهده و ارتطم جبلا الماء !
غاب الجند فى الأعماق و كتمت الأمواج صرخاتهم فلا تحس منهم من أحد أو تسمع لهم ركزا ،
" فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون" ،
صوت مكتوم منفرد هو المسموع الآن ؛
صوت يغرغر مختنقا بعبرات تختلط ملوحتها بملح البحر و طميه الذى يدسه جبريل فى فمه الفرعونى المنعم ،
" آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ " ،
يا لها من عبارة طويلة بالنسبة لهذا الموقف العصيب ،
كل تلك الحروف و الكلمات و ليس فيها الكلمة الأعظم ،
ليس فيها اسم الله !
ألهذه الدرجة ثقل لسانك الأثيم عن النطق باسم الله ؟!
تدعى الإيمان الآن ؟
" آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ" ،
و ليست التوبة للذين يعملون السيئات حتى إذا حضر أحدهم الموت قال إني تبت الآن .
ازداد الاختناق و توالت السكرات و الحسرات و الندم على ما فات ،
لكن هيهات هيهات ،
لقد هلك ،
مات أفجر طاغية عرفته البرية ،
مات من قال أنا ربكم الأعلى و ما علمت لكم من إله غيرى ،
مات الذى قال أليس لى ملك مصر و هذه الأنهار تجرى من تحتى،
ها هى تجرى من فوقه البحار و لات حين مناص ،
ها هو يغيب رويدا رويدا تحت الأمواج ،
و لكن كلا ،
لابد أن يكون آية ،
لابد أن يعرف الخلق أنه قد هلك لا يقولن أحدهم إله علا فى سماء ،
لابد أن يروه و الطين فى فمه و الرعب على قسماته ،
" فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ" ،
اليوم ،
يوم عاشوراء ،
الذى ظننت يا فرعون أنه سيكون يومك وعيدك الذى سيتحاكى فيه الناس عن بطولاتك و أمجادك ،
لقد ظل يوما مشهودا ،
يوما من أيام الله الذى جحدته و استكبرت على عباده ،
يوما أظهر الله فيه عبده عليك ، و تركك آية لمن خلفك ،
و صدق الموقن الكليم فى حرفه الواثق ؛
كلا ،
إن معى ربى سيهدين ،
فها هو قد هداه و نصره ،
لم تزل الرحلة طويلة ، ولم يزل الطريق شاقا ، و الله ينظر كيف يعملون ،

لكنه سيبقى اليوم المشهود ،

يوم ظهر الحق و زهق الباطل ، إن الباطل كان زهوقا ،

" إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ" .

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي