كفى تغافلاً واستغفالاً
لم أستغرب تقرير معهد أمريكان إنتربرايز American Enterprise المنشور عن ربيع بعض الطوائف في السعودية القادم بقوّة وبدعم دولي، ومعلوم موقف هذا المعهد المعادي للسنة عموماً والسعودية والبحرين بوجه خاص، ولقد كاد أن يتفوق في الآونة الأخيرة بحضوره الدائم وإلحاحه المزعج على غيره من مؤسسات البحث في خبايا وفتوق المسلمين ليلج منها لبيضتهم الفكرية, كمعهد الشؤون الخارجية، ومؤسسة كارينجي، ومعهد بروكنجز، ومؤسسة راند العريقة بتقاريرها التي بنت كثيرًا من سياسات المحافظين الجدد.
وعلى كلٍّ فليست قضيّة البكائية في الخليج بالجديدة، وما تلوّن رؤوسهم بين التيارات الصقورية والحمائمية عن ذهن أي مراقب بخافية المدى والهدف، ولا يُلام من سعى لمصالح قومه وملّته، إنما المُلام من رأى الذئب يسرح في حماه، فيكتفي بالصياح أو حذفه بالحجر من بعيد، أو الاكتفاء بحراسة عدوِّه له، أو الثقة بالذئب إذ لبس جلد الحمل!
يَعجب بعض الأخيار من تسهيل الغرب وعلى رأسه أمريكا لهم في العالم الإسلامي، ودعمهم الوَلائي لهم وكأنهم ملّة واحدة! والمسألة لا تعدو في لبّها أن تكون تقاطع مصالح، ومِن أكبرها القضاء على العدو السنّي المشترك، مع عداء قديم- غير مؤثر- موجود في الخلفية التاريخية عند بعضهم بين الكسروية والرومية.
فإيران عدوّةٌ لأهل الكتاب في الظاهر, لكنها صديقةٌ وفيّة لهم في الباطن، وتأخذ بشمالها من تحت الطاولة ما أنفقت مقابله من عنتريات صوتية!
تأملوا: العراق التليد: لقد تم تسليمه على طبق من عظام وجماجم وأعراض لهم! واليوم نرى حكومة العراق ذات القالب الوطني والقلب الصفوي تطبّق الإعدامات الجماعية في رقاب السنة بحجة تطبيق القانون، والعالم بأطرافه الأربعة لا يحرّك ساكنًا سوى الشجب الظاهر، والإطراء المبطن، والدعم المفعّل!
ثم نرى الباطنية- أبطال القنيطرة! ومن مانعوا من تسليم هضبة الجولان للصهاينة- قد أُطلقت أيديهم بكل وسائل الإبادة بلا أي سقف كيفاً وكماً! وبالطبع فمحور السلاح لسورية ذو اتجاهين: خط أحمر في وجه المجاهدين، يقابله خط أخضر لبشار وجنده!
أما إن يممنا بصرنا نحو الأحواز فسنرى كيف تُقام في رقابهم المشانق عبر الرافعات سنين عددًا، بعد أن راموا الخروج من بوتقة ولاية الفقيه وشرنقته الفارسية، فمنهم سُنَّةٌ محضة ومنهم متشيّعة تنوّروا.. فكان الجلّادُ لهم بالمرصاد، ولا عزاءَ لهم من بَشَرٍ.
دعونا- يا سادة- نناقش القضية بهدوء. فالدوائر الاستخباراتية الغربية والشرقية كانت على مدى عقود ترصد بدقة المدَّين، وتقارن بينهما، فقد علمهم عركُ الأيام أن تفكيك العدو، وإشغاله ببعضه، وتحييد ما استطاعوا من مواطن قوّته؛ خيرُ معينٍ لهم في حربهم ضده.
وقد استخدموا هذا التكتيك مع أمم كثيرة فأثبتت النهايات قوة تأثير هذا (الجينوم السرطاني) في تفكيك جسد الأمة المراد حربها.
فلمّا نزلوا ميدان الحروب مع الأمة المسلمة تفاجأوا أن فصيلاً كبيراً وطائفة ضخمة منتسبة للإسلام ليست في حاجة إلى تلك الخطط التفريقية في أمة الإسلام، ذلك أنها منسلخة من كثير من أصوله، وإن ادّعت تمسكها بثوابت أهل بيت نبيه!
لقد قرأ ضباط دوائر توجيه القرار في المنظومة الغربية- بشقِّها الروسي- تاريخ الأمة المسلمة في صراعها التقليدي مع الحضارة الغربية بدءاً من مؤتة وما بعدها، مع وقفةٍ في اليرموك وما لحقها، مروراً بتأمّلٍ ودراسة مستفيضةٍ للحروب الصليبية- بحكم بداية ظهور الدور المؤثر لذلك المدّ بذراعيه.
التاريخ شاهد صدق- وإن كذبت بعض أقلامه- وسنقف متذكّرين لعنوانين فقط لما لهما من ثقل اعتباري، ومدى رمزي في مسار المُراغمة الحضارية والمدافعة الأممية بين أقوى حضارتين على امتداد التاريخ المشهود.
الأول: بيع القدس للصليبيين من قبل الباطنية العبيديين- المتلقبين بالفاطميين زوراً- فبقيت ترسف في الأغلال تسعين سنة، حتى استنقذها الله بأهل السنّة بعدما طعن الحشاشون- الباطنية- ظهر السنّة مراراً إبان حرب الصليب، ولكن الله سلّم.
الثاني: طعن الصفويين لظهر العثمانيين بدخولهم العراق في أحلك المواقف وأحرج الظروف، إبّان فتوحهم الإسلامية في شرق ووسط أوروبا، ما سبّب فك الحصار عن فيينا- وهي بالمناسبة عاصمة الإمبراطورية الرومانية البابوية- ومن ثمّ بدأ انحسار المد الإسلامي الحنيف عن القارة.
يا صاحبي: هل تتذكر حرباً واحدة، واحدة فقط، حاربوا فيها الصهاينة بصدق؟! اقرأ التاريخ وسيرتد بصرك بيقين أن كل ذلك لم يكن! ولا تهتف بحزب الله وحرب 2006 فلقد علِمْنا من كان يحارب حينها، ولقد علمنا لماذا كانت الكاتيوشا بعيدة كل البعد عن المصانع والمخازن والثكنات النوعيّة وهي قريبة على مرأى البصر، ولكن لا بأس من قتل بضعة يهود- فالحرب خدعة- هذا مع تسجيلي عدم تعميم ذلك على كل من حارب وقتها فلا بد لكل فئة من شرفاء، ولن يضرهم جهلنا بهم، إنما يضرنا ثقة الأعمى الغني باللص السفاح!
إن إشارات كبار الإيرانيين إلى أن الخليج يُعتبر عمقاً استراتيجياً لطهران لهو مؤشر جدير بالملاحظة، فينبغي ألا يُمرّر كأي كلام عابر!
كما أنّ الأوان قد آن لفحص قياداتهم في الخليج بعامة للتأكد من براءتهم من التلبس بما يهدم أصول الملّة أولاً، ثم مما يقطع أواصر اللُّحمة الوطنية ثانياً، فالقائد اليوم يتبعه مئات وغداً إن هتف بحربٍ تبعه مئات الألوف.. واعتبروا بمذابح العراق!
لقد ذكر الدكتور الفاضل محمد المسعود- حفظه الله- قبل بضعة أشهر كلامًا مرسلًا مفاده أن غالبية أولئك في الخليج لا تتعبّد بالمذهب المشرك الضال، إنما هم من المفضلة دون السبابة، وهذا- لعمر الله- بشير خير ورائد إصلاح، ولكن: هل هذا صحيح؟ أتمنى ذلك، وأنتظر دلائله، وأخشى ألا يكون دقيقاً، فبعض كبار القيادات الدينية قد ثبت عنهم موبقات عقدية وسياسية بلا أدنى نكير من أقرانهم وأتباعهم إلا على استحياء!
ولستُ بداعية ظلمٍ وأخذٍ بالظِّنّة وعقوبة بلا بينة, فقد علمتُ ما جاء في الظلم، ولكني أدعو إلى التحرّز وتولية الأمر الثقات, فهؤلاء الرعايا في أعناقنا جميعاً فلنأخذ بأيديهم، ولنستنقذ مَنْ أطقنا من محبي الخير منهم, وليسوا بالقليل قطعًا.
في الخارج، لن تجني من الشوك العنب، وليعلم أن المسلمين السُّنة في المشارق والمغارب هم عمق استراتيجي وامتدادٌ حقيقي لهم دين ودنيا، والله قد وعد من حفظ دينه بالحفظ، ومن نصره بالنصر.