اقتصاد منطقة عسير.. المتاهة والحل (1 من 2)
مر الاقتصاد السعودي برحلة طويلة اجتاز خلالها القرن الماضي معتمدا على النفط، وكان دخل المواطنين في كل المناطق يعتمد على الوظائف الحكومية، بينما اعتمد نجاح رجال الأعمال على مشاريع الدولة ومشترياتها، ثم تركزت الصناعة والاستثمار في مدن محددة كالرياض وجدة والدمام، مما أسهم في هجرة واسعة إلى هذه المدن والضغط على الخدمات فيها، ولكن خلال السنوات الأولى من القرن الحالي نشأت توجهات لتحقق تنمية متوزاية في المناطق، فظهرت معها نزعة اقتصادية مناطقية تنافست فيها مناطق المملكة على جذب رؤوس الأموال إليها بحجج شتى أكثرها النشاط السياحي، وللحقيقة لم تكن التبريرات الاقتصادية كافية لإقناع رجال الأعمال، بل كانت مقنعة للعمل الإعلامي ليس إلا. وهذا قاد بعض المناطق ومنها منطقة عسير (هدف هذا المقال) إلى الوقوع في فخ الاقتصاد الذي أسميه المجتر، فخلال سنوات طوال لم تستطع منطقة عسير أن تحقق تقدما في صناعة السياحة، إلا من خلال جذب أبناء المنطقة الذين يعيشون خارجها، والذين يأتون في موسم الصيف أو الدوران حول النفس من خلال رحلة الشتاء من الجبال إلى السهول، فلم تستطع عسير أن تقدم نموذجا سياحيا قادرا على الصمود برغم كل الضجيج الإعلامي عن صناعة السياحة فيها، كما لم تحقق نجاحا في أي صناعة أخرى، وفي هذا ما زالت عسير كما كانت في عهودها الأولى تبيع ما اشترته في يوم الجمعة في سوق السبت ثم تعود لتشتريه يوم الأحد لتبيعه في سوق الثلاثاء، أسواق شعبية بعضها من بعض لم تستطع أن تتعامل مع العالم أو تتواصل معه.
المشكلة الاقتصادية في منطقة عسير مشكلة الهوية الاقتصادية، مشكلة رجال أعمال لم يتمكنوا من الخروج من مأزق العصامية والتنافس العصامي، مشكلة التحول من الذات إلى العائلة، مشكلة القناعة بأن الموارد الفردية قليلة بينما الجماعية وافرة، وسأوضح هذه المشكلات جميعها. فالأنشطة التجارية في منطقة عسير مبنية على ثقافة الرجل العصامي، رجل الأعمال الذي يتابع كل صغيرة وكبيرة، يراجع الدوائر الحكومية بنفسه، يشتري متطلبات مؤسسته بنفسه، يغامر هنا وهناك بنفسه، وهذا لا عيب فيه من حيث المبدأ، لكنه لا يؤسس أعمالا اقتصادية قادرة على تحقيق نفع عام. العصامية انفراد بالقرار لا تمكن من صهر مدخرات المجتمع في مؤسسات واضحة الهياكل، مما يعزز وينمي رؤس الأموال ويفتح مجالات واسعة من الفكر الاستثماري الناضج، الفكر العصامي فكر قلق من الآخر، فهو لا يساعد على توظيف صحيح للموارد وخاصة البشرية، كما أنه لا يفوض بطريقة صحيحة، فتجد المؤسسات كثيرة والبطالة مرتفعة. العصامية محدودة القدرات حتى لو نمت ثرواتها، فالنمو في الثروة يأتي من المشاريع التي تنفذها الدولة من خلال المؤسسات العصامية، التي يشرف عليها صاحب المؤسسة فقط وقليل من أفراد عائلته إذا لزم الأمر، بينما تعج المؤسسة بالمئات من العمال الأجانب الذين يتقاضون رواتب زهيدة، وقد تمر شهور قبل أن يبدأ صرف رواتبهم، فتتكدس الثروة في أيدي عدد قليل جدا من أفراد المجتمع، وهذه الثروات لا تعود إلى الاقتصاد على شكل استثمارات جديدة تفتح مجالات عمل أو ترفع من مستوى الرفاه في البلد، بل يتم استثمارها في عقارات خام أو مدخرات بنكية. فمشكلة العصامية وتجذرها في اقتصاد المنطقة يؤثر بشكل خطير على أي تقدم حقيقي في مجال مشاركة رجال الأعمال في التنمية.
المشكلة الثانية التي لها علاقة بمشكلة العصامية، هي عدم قدرة رجال الأعمال على التحول من المؤسسات الفردية إلى الشركات العائلية الكبيرة، التحول من العمل الفردي إلى العمل المؤسسي ضرورة اقتصادية تتم من خلال إنشاء الشركات، وهذا التحول المهم لم يستطع رجال الأعمال في المنطقة تحقيقه بعد، الشركات هي الأداة الوحيدة القادرة على تحويل قرارت تخدم الفرد إلى قرارات تخدم المجتمع، الشركات تتكون من مجالس إدارات تسهم في الرقابة الجيدة وتطالب بالتخطيط الاستراتيجي واستغلال الفرص وزيادة الاستثمارات لتحقق نموا كبيرا في رؤوس الأموال وفي المشاريع التي تساهم في تنمية المنطقة، من المدهش أن استقراء بسيطا لاتجاهات رجال الأعمال في المنطقة يشير إلى أنه عندما يصبح التحول ضرريا من العمل الفردي إلى الموسسي، فإن رجل الأعمال يقوم بنقل مؤسسته بالكامل إلى مدينة جدة أو الرياض، وهذا لا ضير فيه لتنمية البلاد بشكل عام، لكنه لا يحقق التنمية المتوازية المطلوبة ويتسبب في خلو المنطقة من الشركات القادرة على التوظيف، مما يتسبب في بطالة محلية أو في هجرة العمال إلى المناطق التي تتوافر فيها الوظائف، مما يضغط على الخدمات في تلك المناطق بشكل هائل، كما نشهده اليوم.
المشكلة الثالثة هي مشكلة ثقافية ذات آثار اقتصادية، فالحديث عن قلة الموارد في منطقة عسير يتسبب في خروج رؤوس الأموال منها إلى مناطق ذات موارد أكثر وأفضل، وهذا صحيح عند النظر إلى النزعة الفردية في العمل، فالأراضي المتاحة لإنشاء مشاريع ضخمة غير متوافرة في يد شخص واحد، بل هي متوزعة بين عديد من الأشخاص حسب توزع القبائل والقرى حول وداخل المدن، مما قسم المنطقة الشاسعة المفتوحة الغنية بالموارد إلى قطع صغيرة من الأراضي الفقيرة بذاتها، ومع عدم وجود ثقافة الاستثمار الجماعي والشركات العائلية القادرة على صهر كل هذه المدخرات مع بعضها وإنشاء مؤسسات كبيرة للاستفادة من كل هذه الثروات، فإنه من الصعب توفير موارد حقيقية لاستثمارها من قبل رجال الأعمال والمؤسسات الكبرى حتى من خارج المنطقة. وهذا صحيح على مستوى الأنشطة الصناعة أو حتى مستوى الأنشطة الزراعية، فالمنطقة باتساعها غنية بأراض خصبة، ومع ذلك لم تستطع خلق كيانات كبرى للاستثمار الزراعي وما يتبعه من استثمار صناعي. كما أنه وبرغم السهول العريضة لم تستطع المنطقة أن تجذب الشركات الاستثمارية العملاقة إليها.
هناك جهود كبيرة وهائلة وجادة وملموسة من أمير منطقة عسير الأمير فيصل بن خالد، قد تكون بداية حقيقية للحل، ولكنها تحتاج إلى رؤية اقتصادية واضحة ودعم واسع وخاصة من جامعة الملك خالد، والغرفة التجارية والأمانة ومشيخة القبائل في المنطقة، ولعلي في الجزء الثاني من هذا المقال أوضح هذه الجهود الكبيرة ولعلها ترسم خريطة طريق لانعتاق العملية الاستثمارية في المنطقة.