Author

وقفة مع حوكمة تدويل قطاع الخدمات الاستثمارية

|
يحمل تاريخ قطاعات الخدمات الاستثمارية حول العالم في صفحاته عديدا من الدروس والعبر والشواهد على أهمية النظر بالعين الأولى نحو تطوير أنظمة ولوائح عمل قطاعات الخدمات الاستثمارية، والنظر بالعين الثانية نحو تطوير سياسات حوكمة القطاع وسياساته العامة. تطورات تأخذ في أولوياتها المستثمر وأهدافه الاقتصادية، من جهة، والاقتصاد الوطني وأهدافه التنموية، من جهة أخرى. من إحدى هذه الصفحات نشاط المتاجرة بالأسهم السعودية منذ نشأته منتصف الثلاثينيات الميلادية حتى نهاية الثمانينيات الميلادية من الألفية الماضية، عندما كان النشاط محصوراً في عدد من مكاتب الوساطة المالية غير المرخصة. وعلى الرغم من الدور المتواضع الذي أدته هذه المكاتب في تنشيط حركة تداول الأسهم خلال تلك الفترة، إلا أنها أسهمت في حصر نشاط المتاجرة بالأسهم في مجموعة محددة من المستثمرين، وضمن حدود جغرافية محددة. وعلى الرغم أيضا من أن نشاط المتاجرة بالأسهم لم يكن تحت مظلة سوق أسهم رسمية، إلا أن التجاوزات الإدارية والقانونية لتلك المكاتب خلال تلك الفترة، أسهمت في تأخر إنشاء سوق أسهم سعودية. لم تنحصر تجاوزات شركات الوساطة المالية في الاقتصاد الوطني، لكن تعدتها لتصل إلى عديد من الأسواق الإقليمية. حيث أسهمت مجموعة من مكاتب الوساطة المالية في انهيار سوق المناخ، وإحداث هزة شديدة في منظومتي الاقتصاد الكويتية والإماراتية مطلع الثمانينيات من الألفية الماضية. حيث كوّنت مجموعة من مكاتب الوساطة المالية تجمّعا غير نظامي لسحب السيولة من سوق الكويت للأوراق المالية، وضخها في سوق المناخ عن طريق إقناع مجموعة كبيرة من صغار المتداولين والمستثمرين بنقل استثماراتهم من السوق الرسمية إلى غير الرسمية. دعّمت عملية الإقناع بجدوى استثمارية وهمية ميزت سوق المناخ عن السوق الرسمية، بسبب مضاربات غير منطقية وغير نظامية على أسهم شركات وهمية. تجربة سوق سانتياجو المالية منتصف التسعينيات الميلادية من الألفية الماضية، هي تجربة أخرى تضاف إلى صفحات تاريخ قطاعات الخدمات الاستثمارية حول العالم. حيث استغلت مجموعة من شركات الوساطة المالية قرار السلطات الاقتصادية التشيلية بفتح نشاط الوساطة المالية لجميع شركات التأمين في الإخلال بمبادئ العدل والمساواة بين الوسطاء الماليين. فاستفادت شركات الوساطة المالية تلك من مقارها الدائمة داخل قاعة تداول سوق سانتياجو المالية في تدعيم أنظمتها التقنية بخطوط اتصال سريعة بنظام التداول الآلي. أسهم هذا الدعم الفني في الاستفادة من عامل قرب المكان في تنفيذ الصفقات خلال فترة زمنية قصيرة، مقارنة بالفترة الزمنية التي استغرقتها شركات التأمين، التي اعتمدت على خطوط الهاتف في الاتصال بنظام التداول بسبب إعطائها مقار خارج قاعة تداول سوق سانتياجو المالية. لعل من صفحات تاريخ قطاعات الخدمات الاستثمارية حول العالم الجديرة بالاطلاع أيضا تجربة سوق موسكو المالية، خلال منتصف التسعينيات الميلادية من الألفية الماضية. حيث انتشر الفساد الإداري في هيئة السوق المالية الروسية، ما مكّن مجموعة كبيرة من شركات الوساطة المالية من السيطرة على صناعة القرار الاقتصادي في هيئة السوق المالية الروسية بما يخدم المصلحة الاقتصادية لشركات الوساطة المالية. وفي ظل تجاهل إرادي من هيئة السوق المالية الروسية، انتشرت أساليب التداول غير النظامية وغير الأخلاقية، وأسهمت في حصول تلك الشركات على ثروات مالية ضخمة على حساب الطبقة الكادحة من عمال المصانع العامة، الذين حملوا سندات التخصيص، وكلهم أمل في تحسن معيشتهم الاقتصادية، فضلا عن الثروة. تطلق صفحات تاريخ قطاعات الخدمات الاستثمارية حول العالم من نشاط المتاجرة بالأسهم السعودية، إلى سوق المناخ، فالأسواق المالية في سانتياجو وموسكو وغيرهما كثير، دروس عدة في أهمية تحقيق التوافق بين أولويات المستثمر وأهدافه الاقتصادية، من جهة، وأولويات الاقتصاد الوطني وأهدافه التنموية، من جهة أخرى. يمر قطاع الخدمات الاستثمارية السعودي بمرحلة انتقالية تتمثل في تدويل تأثيره بشكل مباشر من خلال ترقية وجوده ليصبح قطاعا دوليا بعد مرحلة نمو محلية حدثت خلال الأعوام الماضية. مرحلة طموحة ذات أهداف دولية تتوافق وتوجهات العملية التنموية السعودية العاشرة (2015 - 2019) في تطوير موقع الاقتصاد السعودي في خريطة العالم الاقتصادية إلى موقع ذي تأثير وتأثر أفسح من الموقع الحالي. مرحلة وطنية طموحة تتطلب إعادة هيكلة اللوائح التنفيذية لعمل القطاع وسياساته العامة بما يتوافق وهذا التوجه الدولي، بعد أن أكمل نظام السوق المالية عقداً من الزمن منذ صدوره في 2/6/1424هـ بموجب بالمرسوم الملكي الكريم رقم (م/30). وعلى الرغم من التطورات النظامية المتوقعة في هذا الجانب خلال المرحلة المقبلة، إلا أنه من الأهمية التأكيد على أن تتزامن هذه التطورات مع وجهها الآخر المتمثل في شؤون حوكمة القطاع وسياساتها العامة، بما يحقق مزيدا من العدالة بين الأشخاص المرخص لهم وعملائهم من المستثمرين، وبما يدعم استدامة القطاع ويحقق مستهدفات العملية التنموية السعودية.
إنشرها