الخيانة الوطنية
''إني لأعجب
إذ يخون الخائنون!
أيخون إنسان بلاده؟!
إن خان.. معنى أن يكون..
فكيف يمكن أن يكون..؟!!''
هكذا.. ذهب رائد الحداثة الشعرية بدر شاكر السياب إلى استحالة أن تكون لخائن الوطن كيفية أخرى يمكن أن يوصف بها غير ''خائن''.. بل إن التشريعات القضائية والحقوقية عند كل الأمم والشعوب وفي كل الأوطان ولدى كل القبائل وفي كل الأعراف، اعتبرت خيانة الوطن أبشع الخيانات وأحطها وأجمعت على تسميتها ''الخيانة العظمى''.
التجسس على الوطن أو العمالة للخارج أو التآمر عليه هي في المطلق خيانة للوطن، وليس بوسع أي سبب طائفي، عرقي، جنسي، ولا سبب سياسي أو ديني أو اقتصادي أو ثقافي أن يبرر خيانة الوطن، مهما حملت تلك الأسباب من مزاعم حقوقية وإنسانية، ومهما كان الموقع والصفة الاعتبارية والمقام الروحي أو الفكري أو العلمي أو الوجاهة الاجتماعية لمن يقترف مثل هذه الكبائر بحق الوطن.
وحين أعلنت وزارة الداخلية ضبطها شبكة تجسس على دفعتين بلغ عددهم 27 جاسوسا يتعاملون مع المخابرات الإيرانية لجمع معلومات عن مواقع حساسة وحيوية وتزويد المخابرات الإيرانية بها أغلبيتهم (22) من السعوديين، ثم تبين أن فيهم نسبة من أساتذة الجامعة ومن الأطباء وموظفين مصرفيين كبار.. أحدث ذلك في العقل الوطني ثلاث صدمات دفعة واحدة.. الأولى: هي الإعلان عن اكتشاف هذه الشبكة.. والثانية أن معظمهم مواطنون.. أما الثالثة فهي أنهم أشخاص في عداد أصحاب الامتياز والنخبة أو الصفوة.
لقد كرس الواحد من أولئك سنوات طويلة من عمره لحيازة امتيازاتهم المادية والمعنوية والتمتع بها.. فما الذي دفعهم للتفريط فيها خصوصا وهم ليسوا فتية مراهقين، وإنما هم على دراية عقلية وعلمية لا يمكن القول إنه تم ''التغرير'' بهم، فالتغرير قد يحدث لشخص حدث أو من العامة تحت ضغط الحاجة أو الجهل.. وبالتالي لن نجد التفسير هنا كما لن نجده في صلة قرابة أو مصلحة أو حتى في جذر المنشأ، فكلها لن تصل بأفراد من ذوي الامتيازات لكي يقترفوا جريمة الخيانة، ما يقودنا إلى الدور الخطير الذي يلعبه المعتقد اللاعقلاني الذي يسيطر على الأذهان والوجدان ويسد منافذ البصيرة عن رؤية الواقع والتفكير السليم.
يتمثل هذا المعتقد اللاعقلاني في (ولاية الفقيه) وتكمن خطورته في تمركزه حول تصوره الشاذ للعالم المفارق للواقع، واعتبار منطقه هو الحقيقة المطلقة وغير ذلك لا بد من نفيه وإقصائه، تماما كالمعتقد اللاعقلاني للكرسي البابوي في القرون الوسطى الذي رزحت تحته أوروبا حين كانت رعوية ''البابا'' هي ولاية الفقيه آنذاك والكرادلة هم الآيات.. مع فارق جوهري بين الحالتين، فرعوية ''البابا'' كانت تتحرك آنذاك فوق أرض الإمبراطورية الرومانية فيما ولاية الفقيه لديها هوس إقامة الإمبراطورية الفارسية الصفوية.. أي أن ولاية الفقيه وإن تطابقت مع رعوية البابا في التصور اللاعقلاني إلا أنها تسير في اتجاه معاكس للتاريخ.. ومن هنا يمكن تفسير تورط هؤلاء بالتجسس لإيران فاعتقادهم بولاية الفقيه اللاعقلانية السائرة عكس التاريخ سار بهم إلى أن يصبحوا في الاتجاه المضاد لوطنهم، ولتصبح الغاية عندهم تبرر الوسيلة غير عابئين بحدة التناقض الذي يقعون فيه، فباسم المظلومين يحيق ظلم أشنع وباسم العدالة تهدر العدالة بفحش بائس، ذلك أن التمركز حول التصور اللاعقلاني للمعتقد يقوم بعملية إحلال التصور نفسه كي يكون بديلا عن كل شيء حتى لو كان الوطن، طالما أن ذلك يؤدي إلى إنجاز مشروع ''ولاية الفقيه'' لبسط سلطان الشيعة على العالم الإسلامي.. كما كان زعم القاعدة تطهير جزيرة العرب من المشركين والنصارى وإخراج العالم الإسلامي من جاهليته من أجل إنجاز مشروع ''فسطاط'' الحق على الأرض.
وإذا كانت قد تمت مواجهة ''الفئة الضالة'' بحل أمني وبـ ''المناصحة'' فيما أخذ الحل الأمني مجراه ضد شبكة التجسس، فهل ستكون آلية ''المناصحة'' فعالة، حتى لو من مرجعية شيعية، مع مَن خان وطنه بعمالة لدولة تربض بالجوار وليس لتنظيم لا مستقر له؟!