قصة ESM في الغش .. الفرصة والحافز والتبرير
في عام 1986، صدرت الأحكام في حق سبعة أشخاص من بينهم المراجع الخارجي لشركة ESM للسندات الحكومية. وهي شركة متخصصة في بيع وشراء السندات الحكومية التي تصدرها الولايات والبلديات المحلية في الولايات المتحدة. وتسببت هذه القضية في تعديلات تشريعية أصدرها الرئيس ريجان قرب انتهاء ولايته.
والقصة بدأت عندما تبنى الرئيس الأمريكي كارتر في السبعينيات، وتبعه الرئيس ريجان، سياسات اقتصادية تسمح برفع الدين الحكومي إلى مستويات قياسية، لهذا تسامحت الحكومة الأمريكية في عمليات الوساطة حتى مع المؤسسات الصغيرة غير الخاضعة للرقابة الفيدرالية أملا في توسيع المشاركة في عملية تسنيد الدين الحكومي، وهو ما سيحقق للحكومة أفضل تدفقات نقدية ممكنة. كانت شركة ESM تعمل وسيطا وفق ما يسمى باتفاقيات إعادة الشراء (الريبو) أو اتفاقيات إعادة الشراء العكسي (الربيو العكسي)، وكان يدير علميات الوساطة لديها خبير متخصص في العميات البنكية يدعى الآن نوفيك، وكان نوفيك خبيرا أيضا في التلاعب والمضاربة والغش في القوائم المالية، واستمرت أعمال هذه المؤسسة المتلاعبة واختلاسات كبار التنفيذيين فيها دون أي شكوك حتى وصل حجم ما تم اختلاسه من أموال المضاربين 100 مليون دولار، والغريب أنه لم يتم اكتشاف حجم هذا التلاعب والاختلاس إلا بعد أن توفي الآن نوفيك بأزمة قلبية. لكن هل فعلا لم يستطع أحد اكتشاف هذا التلاعب قبل وفاة نوفيك؟ الحقيقة أن المراجع الخارجي للشركة اكتشف هذا التلاعب منذ سنوات، لكنه بضغوط كبيرة من نوفيك تورط معه في عملية نشر قوائم مالية محرفة، وعندما اكتشفت القضية بكاملها في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي كان قوميز - شريكا في ''مكتب إلكسندر جرانت'' في ذلك الحين - هو الشريك المسؤول عن عملية مراجعة حسابات شركة ESM، وتسببت تصرفاته المخالفة لأخلاق وقواعد المهنة في أن يتحمل مكتب إلكسندر جرانت تعويضات تجاوزت 70 مليون دولار.
إن تورط مراجع الحسابات في الغش الذي قامت به شركة ESM يعد واحدة من أوضح القضايا في اكتمال العناصر المسببة للغش، وهي الفرصة مع الحافز، إضافة إلى التبرير. فلقد كان شريك المراجعة قوميز شابا في منتصف الثلاثينيات، وهو طموح جدا، استطاع في فترة وجيزة إقناع شركاء مكتب إلكسندر جرانت بمنحه هذا المستوى الرفيع في المهنة، وبدلا من أن يمارس المهنة وفق قواعد السلوك المهني، وأن يعمل وفق مفهوم الرجل الحريص، فقد تتبع شهواته في البذخ، الصرف بلا حدود، وهو ما ورطه في ديون كبيرة جدا، حتى أصبحت بطاقات الائتمان تسحب عوائده كافة. في هذه الفترة المضطربة من حياته أُوكلت لقوميز مهمة مراجعة حسابات شركة ESM، وفورا اكتشف قوميز عملية التلاعب الضخمة التي تقوم بها الشركة، والتقى لأول مرة نوفيك، الذي كان على علم بالوضع المالي الحرج الذي يعانيه قوميز واستغله بمهارة. حيث وعده وهدده في الوقت نفسه، وعده بأن يحصل على نصيبه من الثروة التي يسرقها التنفيذيون في ESM، وهدده بأنه إذا لم يشترك في الموضوع وقرر فضخ الشركة فإن مكتب إلكسندر جرانت سيتورط أيضا؛ لأنه هو الذي أدار العلمية بالكامل في السابق، وبذلك سيفقد مكتب إلكسندر سمعته، ولن يحقق العوائد السابقة، ولن يتمكن قوميز بعد ذلك من الاستمرار في سداد ديونه وسيموت فقيرا. إنه الحافز والتبرير في الوقت نفسه، الضغوط والمخرج في آن معا، مارسها نوفيك على شريك المراجعة ببراعة. وهكذا وتحت الديون المتراكمة على شريك المراجعة قوميز ظهرت فرصة الغش في القوائم المالية لشركة ESM، ومعها التبرير والحافز كبير، فكان أن وقع في جريمة الغش ببساطة.
كان أساس فكرة التلاعب يكمن في أن شركة ESM تقوم ببيع السندات الحكومية للمستثمرين، ثم تقوم بعد ذلك باتفاق لإعادة شراء السند في وقت معين بسعر محدد (الريبو). وهي تقوم بالدخول في هذه الاتفاقية على أمل أن سعر السندات في السوق سيرتفع بأكثر من قيمة السعر المحدد عند تنفيذ الاتفاق، وفي المقابل كانت الشركة تدخل في عمليات شراء السندات الحكومية من المستثمرين، ثم تقوم بالدخول في اتفاق لإعادة بيعها عليهم عند سعر محدد في وقت معين (هذا هو الريبو العكسي). التلاعب الذي قامت به شركة ESM هو في عمليات الريبو، حيث كان يجب نقل السندات التي تم بيعها إلى المستثمرين في محافظهم أو إلى جهة أخرى تحتفظ بها حتى وقت إعادة الشراء، لكن ESM لم تكن تلتزم بذلك، ونظرا لقصر مدة العقد من وقت البيع حتى إعادة الشراء (عادة يوم واحد) لم يكن الكثير من المستثمرين حريصا على عملية نقل السندات إلى المحافظ، وهذا أعطى ESM فرصة للغش، حيث كان نوفيك يقوم بإعادة بيع السندات نفسها لمستثمرين آخرين، وهكذا كان يبيع السند نفسه أكثر من مرة محققا أرباحا كبيرة من هذه العملية كان نوفيك يحولها إلى حساباته الخاصة ويوزعها على فريقه، ومنهم قوميز مراجع الحسابات، إضافة إلى كل ذلك كان نوفيك يدخل في عمليات مضاربة غير مدروسة تسببت في خسائر كبيرة لشركة ESM، هذه الخسائر المتراكمة سواء بسبب المضابات أو بسبب الاختلاسات، كان نوفيك وبمشاركة ودعم مرجع الحسابات، يرحلها جميعا إلى حساب مدين لشركة تابعة، ثم يتم الإفصاح عن المدينين بشكل عام مع إيضاح غامض جدا ضمن مرفقات القوائم المالية. استمرت هذه العلمية سنوات حتى مات نوفيك بسكتة قلبية نتيجة الضغوط الكبيرة التي يواجهها لتغطية كل هذه العلميات، وبعد ذلك فشل الجميع في القيام بما كان يقوم به حتى بدأ أحد المستثمرين بطلب السندات بطريقة غير متوقعة ومارس ضغوطا كبيرة، أدت إلى كشف كامل العملية وإعلان افلاس شركة ESM وتحولت إلى قضية رأي عام.