التسعير بالدولار لا يتطلب التثبيت
تتبع دول مجلس التعاون الخليجي، باستثناء الكويت، نظام سعر الصرف المثبت بالدولار وحده. وأقوى مناقشة، حسب علمي، تدافع عن نظام التثبيت هذا أن النفط مسعر بالدولار. والتثبيت بالدولار يسهل المواءمة أو المطابقة بين إيرادات الحكومة المقوم غالبها بالدولار، والعملة المحلية كالريال والدرهم.
لكن هذه الحجة تتجاهل التذبذب الحاد في أسعار النفط، ما يلغي عمليا فائدة المطابقة، بمعنى أن التثبيت لا يساعد على تخفيف تذبذب الإيرادات من النفط، بل يحصل العكس، حيث يزيد من حدة تذبذب إيرادات الحكومة والمشكلات المالية العامة. فمثلا، المحافظة على استقرار سعر الصرف حينما كانت أسعار النفط متدنية رغم أنها ساهمت في زيادة القوة الشرائية للريال، وانخفاض التضخم آنذاك، إلا أنها ساهمت أيضا في انخفاض الإيرادات النفطية الحكومية بالريال، ومن ثم خفض الإنفاق الحكومي، خاصة على المشاريع وصناديق التنمية. ونحن نعايش أزمات اقتصادية أحد أسبابها خفض الإنفاق الاستثماري الحكومي خلال سنوات ما قبل طفرة أسعار النفط الحالية. أي أن الاقتصاد النفطي يدفع سعرا باهظا للمحافظة على استقرار سعر الصرف فترة انخفاض أسعار النفط.
كانت هذه النقطة موضع بحث ودراسة بعض الجهات الأكاديمية والبحثية، انظر مثلا:
Exchange Rate Regimes, Inflation and Growth in Developing Countries - An Assessment ,The B.E. Journal of Macroeconomics, 2007، الذي استخدم أدوات اقتصاد قياسي في تحليل السلسلة الزمنية من 1984 إلى 2001، وخلص إلى أن التثبيت الصارم تميز عن أنظمة أسعار الصرف الأخرى بمعدلات تضخم أقل وفي الوقت نفسه معدل نمو اقتصادي أقل.
كما أنه يمكن مناقشة تلك الحجة بكون التسعير بالدولار لا يجبر الدول على تسلم عائداتها بالدولار. تماما كما أن ''سابك'' تسعر منتجاتها بالريال، إلا أنه يمكن لها أن تستلم القيمة بعملات غير الريال. ويبقى الريال مجرد وحدة قياس.
وعلى هذا نفهم أن المشكلة تكمن في وقوع اختلاف مصالح وتباين ظروف بين دول العملات المتبوعة ''كالدولار''، والعملات التابعة ''كالريال''. كلما اتسع الخلاف في المصالح وازداد تباين الظروف، كلما زادت التكلفة على دول العملات التابعة، وهذا ما يحصل في السنوات الأخيرة، وحدة التكلفة تزداد مع مرور الأيام.
وتتسبب الصدمات الاقتصادية كارتفاع أسعار النفط وانخفاض الدولار غالبا في تغيير الظروف. وهنا أشير إلى أن التحليل الاقتصادي النظري والقياسي، يفرق بين تأثير الصدمة المؤقتة وتأثير الصدمة الدائمة. وهذا ما يتفق مع سلوكيات البشر التي نراها يوميا.
السلطات الأمريكية لم تتدخل لوقف تدهور الدولار خلال السنوات الماضية. ويبدو أنها كانت ترى أن فوائد التدهور أكثر من مضاره. ويعكس ذلك في جزء منه إلى نتائج بحوث في الموضوع، أعطت الرأي نفسه بصورة مباشرة أو غير مباشرة. منها على سبيل المثال، دراسة لخدمات البحوث في الكونجرس عنوانها ''انخفاض الدولار: تأثيرات اقتصادية وسياسات مقابلة'' The Depreciating Dollar :Economic Effects and Policy Response نشرت في 2012.
كم تبلغ مساهمة انخفاض الدولار في موجة التضخم الحالية؟ هل التثبيت باليورو أنسب من التثبيت بالدولار؟ تصعب الإجابة على هذه الأسئلة وأمثالها بالتحليل النظري فقط، بل لا بد أن تسند بعمل تطبيقي قياسي empirical work. وقد لا يعطي نتائج موحدة لكل دول الخليج، فمثلا، توصلت دراسة تقنية قياسية، نشرت في يناير 2008، وعنوانها:
In The Middle of the Heat: The GCC countries Between Rising Oil Prices and the Sliding Greenback، إلا أنه لا فرق بين التثبيت بالدولار أو اليورو للكويت أو البحرين، بينما التثبيت بالدولار أسوأ من التثبيت باليورو بالنسبة للسعودية والإمارات وعمان. وتوصلت الدراسة أيضا إلى أن مشكلة دول مجلس التعاون ليست في أية عملة أو سلة عملات يجري التثبيت، ولكن عن ترتيبات التثبيت.