تاتشر على حق .. لا وجود لشيء اسمه المجتمع

تاتشر على حق .. لا وجود لشيء اسمه المجتمع

الآن بعد أن انتهت مراسم الجنازة والإدانات الشعائرية لمارجريت تاتشر، آن الأوان للبدء في إلقاء نظرة تحليلية أعمق على تركتها. وأعتقد أني أصلح لهذه المهمة؛ لأني لم أكن من أشد أعداء التاتشرية، ولم تكن الحلقة المحيطة بها تعتبرني "في الحقيقة واحدا منهم".
هناك نقطة غابت عن الجميع في الكلمات المطولة أثناء الأيام الأخيرة، وهي تأثرها الفكري الكبير بكيث جوزيف، المحافظ الذي ساعدها على وضع فكرة السوق الحرة الحقيقية على الأجندة السياسية من جديد.
حين أقول هذا لا أقصد أبداً أن أنتقص من تركتها، بل على العكس، فقد كانت تقول في غالب الأحيان: "يوماً ما سيدرك الناس مقدار ديْنِهم لكيث جوزيف". ويستطيع أي شخص تأكيد ذلك بالنظر إلى محاضرة جوزيف التذكارية التي ألقيت في مركز دراسات السياسة. كان الجزء الأول من المحاضرة يتحدث عن الصلة بين الاقتصاد الحر والمجتمع الحر، وكان الجزء الأخير يتحدث عن أخطار مشروع عملة اليورو. ولا يزال الموضوعان يتسمان بالجدة وبارتباطهما بالوضع الحالي.
أود أن أبدأ بتعليق يحدد ملامحها ـــ بل إنه حتى أُثيرَ في جنازتها. بعض الناس يرون أنه كان من أسوأ الأشياء التي قالت؛ وأنا أعتبر أنه من أفضل ما قالت.
"أعتقد أننا مررنا في فترة كان فيها كثير من الناس يفهمون أنه حين تكون لديهم مشكلة فمن واجب الحكومة التعامل معها. فتراهم يقولون مثلاً، لديّ مشكلة وسأحصل على منحة، أو لا بيت لي ولا بد للحكومة أن تجد لي المأوى. هؤلاء الناس يُلقون بمشاكلهم على المجتمع. وكما تعلمون لا يوجد شيء اسمه المجتمع. هناك أفراد من الرجال وأفراد من النساء وهناك عائلات. ولا تستطيع أي حكومة فعْلَ أي شيء إلا من خلال الناس، ولا بد للناس أن ينظروا إلى أنفسهم أولاً. من واجبنا أن نعتني بأنفسنا ومِن ثَم نعتني بجيراننا كذلك. يركز الناس تركيزاً فوق الحد على حقوقهم وينسون الواجبات. لا يوجد شيء اسمه حقوق ما لم يكن هناك شخص ما أدى واجبه أولاً".
أعتقد أن ما قصدت إليه تاتشر هو أنه ينبغي للناس أن يحاولوا أولاً حل مشاكلهم ومشاكل عائلاتهم وأصدقائهم، وفي الملاذ الأخير فقط أن يعتمدوا على الحكومة. الحكومة هي بكل بساطة آلية يستطيع الناس من خلالها مساعدة بعضهم بعضاً وإكراه "المتسلقين الراكبين بالمجان" على الإسهام في الجهود. وقد فسَّرْتُ ملاحظاتها على أنها تعبير عن الفردية المنهجية (رغم أني أشفق على أي كاتب للخطابات أقنعها بقول تلك الكلمات).
حاولتُ أن أشرح ذلك كله في كتابي "رأسمالية دون وجه إنساني". باختصار شديد هذا يعني أن تعاملات الكليات المعقدة لا بد أن تكون قادرة على أن يعبَّر عنها بدلالة المكونات الفردية ـــ مثل التعبير عن المركبات الكيماوية بدلالة الذرات، والتعبير عن الذرات بدلالة البروتونات والإلكترونات، والتعبير عن الأمم بدلالة مواطنيها. وقد تبنى الفرديةَ المنهجيةَ مجموعة كبيرة من المفكرين التجريبيين، وبعضهم له عقلية سياسية تختلف اختلافاً كبيراً عن عقلية تاتشر.
مثلا، درس الفيلسوف الليبرالي الكلاسيكي، كارل بوبر، المفهوم المجرد للحرب. وقال: "الأمر الملموس هو الذين قُتِلوا في الحرب، أو الجنود الذين يرتدون الزي العسكري". وقال الفيلسوف الاسكتلندي، ديفيد هيوم، الأمة هي مجموعة من الأفراد. وهناك من نفى هذا المبدأ، ومنهم فلاسفة يفترض أنهم من كبار المفكرين، مثل جورج هيجل الذي يبالغ الناس في تقديره، وهو القائل: "كل القيمة التي يمتلكها الفرد الإنسان في كامل الحقيقة الروحية، إنما يمتلكها من خلال الدولة فقط".
كانت تاتشر مدركة تماماً أن الدعم الذي اتُّهِمت بأنها منعته عن الصناعات المعتلة في شمال بريطانيا لم يكن ليأتي من كيان غامض اسمه الدولة، وإنما كان سيأتي من مواطنين إخوة لهم. ربما كانت على صواب أو على خطأ. لكن الموضوع لم يكن مسألة كرم شخصي منها. المختصون في الفلسفة السياسية الذين كانوا يتصيدون الأخطاء قالوا إنها لو أرادت أن تكون بالفعل فردية منهجية لكان عليها أن تضيف عبارة "وهناك عائلات" في بيانها الشهير. وكأنها تقول: "لا توجد غابات، وإنما هناك أشجار وغابات صغيرة". لم تكن تاتشر من الغباء بحيث تعجز عن إدراك ذلك، لكنها لم تكن تعطي درساً في الفلسفة السياسية في الجامعة. كانت تشير إلى أن مساعدة الفقراء أو المناطق المعتلة، لا بد لها أن تأتي من مكان ما ـــ أي سكان البلد صاحب العلاقة.
ومما يدعو إلى الأسف أنها كانت عاجزة عن تطبيق هذا التفكير الاختزالي في الشؤون الخارجية. ليس هناك كائن اسمه ألمانيا، أو بريطانيا، أو الأرجنتين، كل ما هناك هو كيانات مركبة تتألف من أفراد. من المنطقي بالنسبة للمواطن البريطاني أن يفكر في أن روح الشخص البريطاني أثمن من روح الشخص الأرجنتيني، لكن من غير المنطقي أن نعتبر أن قيمة حياة الشخص الأرجنتيني تساوي صفراً. لا بد من الاعتراف بأنه حتى لو كان الناس في العادة يفكرون بهذه الطريقة، فمن الممكن أن يظلوا مع ذلك يقبلون بفكرة أن الموت هو شر ضروري في سبيل ألا يفقد البلد منطقة إقليمية وما شابه ذلك. لكن لو كانت الأمور تُفهم بهذه الطريقة دائماً فمن الممكن أن تؤدي إلى سياسات أقل توجهاً إلى الطابع القومي. حتى تاتشر لا بد أنها أدركت بغريزتها هذا الأمر حين بكت لمدة 40 دقيقة على خسارة الأرواح عندما غرقت إحدى السفن الحربية بالقرب من الفوكلاند.

الأكثر قراءة