"فتح" في الإدارة
في الأحساء كبرى محافظات السعودية، تقع مدينة المبرّز التي أنجبت عديداً من رواد الأعمال في المملكة ممّن سطّروا بكفاحهم أروع قصص النجاح والتميز في التجارة والصناعة، حتى أصبحت هذه القصص نبراساً يهتدي به شباب الأعمال وأصحاب المشاريع الصغيرة والمتوسطة، وجلّ المهتمين والممتهنين للعمل التجاري والصناعي في السعودية وسائر دول الخليج العربي.
عطاء أهل المبرّز للمنجزات السعودية لم يقتصر على قطاع الأعمال، إذ حظي المزارعون «الحساوية» بشهرة واسعة في إنتاج أطيب أنواع التمور وأجودها، وتوسع نطاق إنتاجهم حديثاً إلى ما هو أبعد من القطاع الزراعي بعد أن غرسوا فسيلة "الفتح" في دوري «زين»، فكبرت الفسيلة وصارت نخلة تعانق السماء، لتطرح ثمارها لذوّاقة كرة القدم، ويكون "خلاص الأحساء" أزين إنتاجٍ كروي لهذا الموسم. كما برع أهل الأحساء أيضاً في حياكة البشوت وتطريز «الزري»، وآن لهم أن يحيكوا "بشتاً حساوياً" فاخراً مطرزاً بخيوط الذهب لابنهم البار، المهندس عبد العزيز العفالق ورفاقه الذين صاغوا إنجازاً غير مسبوق، استحقوا عليه التوشح بالذهب.
في عام 2009 الذي شهد صعود "النموذجي" إلى مصاف الأندية المحترفة، اجتمع المشرف العام على الفريق الأول لكرة القدم بنادي الفتح، الشاب الطموح أحمد الراشد بلاعبي الفريق قبل تسع جولات من ختام منافسات دوري الدرجة الأولى؛ بغرض الإعلان عن برنامج تحفيزي جديد. دشّن الراشد البرنامج الجديد بتمزيق لائحة المكافآت المعمول بها سابقاً أمام أنظار اللاعبين، مؤذناً ببدء مرحلة جديدة من التحدي والإصرار على الفوز بالمباريات المتبقية من المسابقة، وبالتالي الصعود إلى دوري الأضواء. بدأ السلم الجديد لمكافآت الفوز بـ 2000 ريال لكل لاعب، مع وعد قطعه الراشد على نفسه بمضاعفة مكافأة اللاعبين، بعد كل فوز يحققه الفريق ضمن الجولات التسع المتبقية، إلى أن وصلت المكافأة إلى 16 ألف ريال لكل لاعب فتحاوي في الجولة ما قبل الأخيرة من دوري الدرجة الأولى، وهذه مكافأة ضخمة لا تُدفع إلا للاعبي أندية القمة في السعودية، ولم يتم قط تسجيل هذا الرقم القياسي في المكافآت للاعبي أندية الدرجة الأولى..، كان للمشرف العام ما أراد بعد نجاح فريقه في الصعود إلى دوري «زين» للمحترفين، وبعد هذا التاريخ، بسقت نخلة الفتح بين أندية «زين»، وسار أبناء النخيل في درب كسر المفاهيم السائدة في عالم المحترفين.
يحكي، المرحوم بإذن الله، الدكتور غازي القصيبي في سيرته الذاتية المعنونة «حياة في الإدارة» قائلاً: "تقتضي النظرة العلمية أن نعطي المؤسسة ــ بأبعد معانيها ــ دورها الكامل، كما تقتضي ألا نقلل من دور الفرد الذي يقف على رأس هذه المؤسسة." والفرد الذي يقف على رأس مؤسسة الفتح "النموذجية" هو المهندس عبد العزيز العفالق الذي كسر أسطورة "أندية الرجل الواحد"، حيث قامت سياسته الإدارية على أساس اللامركزية وتوزيع الأدوار والمسؤوليات وتفويض السلطة إلى طاقمه الإداري، فتفرغ العفالق إلى هندسة الخطوط العريضة لاستراتيجية الفتح والإشراف على تنفيذها، تاركاً التفاصيل الدقيقة لأعضاء مجلس إدارته، كلٌّ وفق اختصاصه النوعي. علاوةً على ما سبق، وعلى الرغم من تربّع الفتح على صدارة دوري المحترفين بصفة شبه دائمة، لم يملأ العفالق الدنيا صخباً، وما رأيناه (يتنطّط) على كل الفضائيات، على النقيض من معظم رؤساء الأندية السعودية "المدمنين" على تعاطي جرعات مكثفة من الظهور الإعلامي، بمناسبة، ومن غير مناسبة في غالب الأحيان. وإنما ادّخر (أبوعمر) جهد القول والتصريح، وبذله في الفعل والعمل المتواصل. فهنيئاً للفتح بالعفالق، وهنيئاً للكرة السعودية بالفتح.
سبق لي أن تناولت في مقالٍ سابق مأساة الهدر المالي في أندية "الكاش" السعودية، وكتبت أن المال هو قوام صناعة كرة القدم الحديثة، لكنه إن لم يُدر ويوظف بالطرق المثلى بالاستناد إلى سياسات مالية متزنة، فإنه سيتحول إلى هدر، وبالتالي يؤدي هذا الهدر تلقائياً إلى تسجيل عجز في موازنات الأندية والدخول في مآزق مالية.. فلا قيمة لتحقيق اللقب إذا ما اقترن بالوقوف على شفا هاوية الإفلاس، كما هو حاصل اليوم في أندية "الكاش" التي تخوض مجموعة منها حرباً ضروساً مع الشريك الاستراتيجي لتعديل البنود المالية لعقود الرعاية؛ أملاً في زيادة مداخيلها وتغطية مصروفاتها اللامنتهية. وعلى جانبٍ آخر، يجاهد نادٍ آخر من أجل فك حبال الديون الخانقة الملتفة حول رقبته. في الفتح رُسمت صورة مالية مغايرة لم تشهدها الكرة السعودية من قبل، تجسدت في نجاح إدارة الفتح في قهر سطوة المال ببراعة الفكر الذي مكّن "النموذجي" من الوقوف على أعتاب منصة التتويج بميزانية تجاوزت الـ 20 مليون ريال سعودي بقليل، وهذا مبلغ زهيد جداً مقارنةً بما أنفقته إدارت أخرى فشلت في تحقيق أي نجاحات تذكر خلال هذا الموسم، وفي مواسم سابقة أيضاً! هناك أمر آخر تستحق عليه إدارة الفتح الإشادة، وهو التزامها بصرف مرتبات اللاعبين بصفة شهرية منتظمة دون انقطاع، علماً بأن أجور لاعبي الفتح (بطل الدوري) تصنّف من ضمن (الأدنى) في دوري المحترفين! وفي المقابل، تتأخر إدارات الأندية "الغنية" عن صرف مرتبات لاعبيها بفترة وصلت إلى ستة أشهر في بعض الأندية. هنا تنطبق الحكمة القائلة: قليلٌ دائم، خيرٌ من كثيرٍ منقطع.
وُلِد طيب الذكر الأديب والشاعر والوزير، رجل الدولة الدكتور غازي القصيبي، رحمه الله، في الأحساء عام 1940 فأفنى حياته في خدمة مليكه ووطنه، وأحدث ثورةً على "البيروقراطية"، حتى صار مرجعاً في علوم الإدارة العامة، وفي عام 1958 وُلِد في الأحساء نادي الفتح، ليفتح لنا آفاقاً جديدةً في فن الإدارة الرياضية. من يستعرض مشوار الفتح، فسيجد خلاله الكثير من الدروس والعبر التي تصلح لأن تكون دليلاً لسبل النجاح والارتقاء بمستوى العمل الإداري في الكيانات الرياضية / التجارية، وبما أننا نقف الآن على مشارف إنجاز مشروع "التخصيص"، أقترح على الجهات المعينة تأسيس "أكاديمية الفتح للإدارة الرياضية" لتعميم تجربة الفتح الإدارية الناجحة على كافة الأندية السعودية المحترفة.
آخر فنجان:
لكل زمان نادٍ ورجال وإدارة..