أحياء الرياض السكنية.. الواقع والمأمول
يقضي الواحد منا (ثلثي) ساعات اليوم تقريبا في حيه السكني، لذا من الأولى أن تتوافر فيه وأسوة بمناطق المدينة الأخرى، جميع المتطلبات الإنسانية، الوظيفية والجمالية، لتعود هذه المتطلبات إيجابيا على ساكنيه بالراحة البدنية والنفسية، وبالتالي على جميع نشاطاتهم اليومية، الدينية والعملية والاجتماعية والترفيهية.
ولنتأكد من أن أحياءنا السكنية في مدينة الرياض تتوافر فيها هذه المتطلبات، يكفي أن يتحقق فيها المعنى اللغوي لكلمتي (حي سكني)، أي أنها: اسم على مسمى.. فهل هي كذلك؟
كلمة (الحي) مشتقة من (الحياة) ومعناها (النموّ) و(البقاء) و(المنفعة)، أما كلمة (السكني) فمشتقة من (السكون) ومعناها: كل ما (سكنتَ إليه) و(استأْنسْتَ به)، بالتالي فلنقم حال معظم أحيائنا السكنية العامة وفق هذه المعاني: لنبدأ (بالنمو)، فالأحياء لا تطوير ولا تحسين فيها ماديا أو حيويا إنما تظل كما هي منذ بداية إنشائها بلا حراك سوى أعمال الصيانة والنظافة الدورية حتى تهرم وتموت. وأما (البقاء) فلا بقاء لها كأحياء سكنية ولا لسكانها فيها أيضا, فلا تكاد تكتمل مبانيها السكنية والخدمات والمرافق العامة، وبسبب إهمال الجهات الحكومية وساكنيها تبدأ النشاطات التجارية والمكتبية وسكن العمالة والمستودعات باحتلال المساكن التي فيها (بكل بساطة) حتى يهجرها بسبب ذلك ما بقي من سكانها إلى أحياء سكنية أخرى تحت التطوير وهكذا دواليك. وفيما يخص (المنفعة) فلا منفعة بين سكان أحيائنا مطلقا، وذلك لعدم وجود مراكز ثقافية ولا اجتماعية ولا ترفيهية لتجمع قاطني الحي وتشجعهم على التواصل والتكافل فيما بينهم، وبالتالي تبادل المنافع. وأما (السكون) فلا سكون بالطبع فيها بسبب الضوضاء الناتجة من الحركة الكثيفة والمتهورة للسيارات القاصدة والعابرة و(المفحطة) أيضا جراء وجود شبكة شوارع غير مدروسة مروريا، كما أن بعض هذه الأحياء تأتيها الضوضاء من السماء، كونها تقع أسفل مسارات الطيران المدني وربما الحربي أيضا! كما أن (الاستئناس) في أحيائنا لا تشعر بها بالتأكيد لكون معظم الأحياء أشبه ما تكون مهجورة من بني البشر، لا شبكة للمشاة ولا حدائق كافية، ولا نشاطات ثقافية واجتماعية وترفيهية كما أسلفنا تشجع القاطنين على الخروج من منازلهم أو حصونهم - إذا صح التعبير - ليتواصلوا فيما بينهم أو على أقل تقدير ليرى بعضهم بعضا!
لذا يتضح مما سبق أن (أحياءنا السكنية) ليست (اسما على مسمى)!
وعلى الرغم من عدم وجود أحياء سكنية في مدينة الرياض تتحقق فيها جميع تلك المعاني, إلا أنه يوجد بعضها يتحقق فيها بعض تلك المعاني، مثل: حي السفارات، والحي السكني لمنسوبي وزارة الخارجية، والمجمعات (الكومباوندات) السكنية المغلقة، التي يجمع معظم الناس على تميزها تصميميا وبيئيا, وأمنية الكثير منهم أن يحظوا بمساكن فيها لولا كون بعضها خاصا والبعض الآخر تكلفة استئجار أو شراء مسكن أو أرض فيها مرتفعة جدا لندرتها, كل ذلك لم يحفز المطورين العقاريين ولا ملاك الأراضي على الاقتداء بها, ظنا منهم أن التصميم العمراني المميز لهذه الأحياء أمر شكلي فقط وأنهم سيهدرون بسببه مساحات كبيرة من الأرض هم أولى بأن يوفروها من خلال (تقسيمها) إلى (بلكات) مستطيلة تحيط بها شوارع من كل اتجاه هي في الواقع استكمال (لتقسيم) الحي المجاور، ما نتج عنه مخطط مناسب ليكون منطقة (مستودعات أو ورش أو مصانع) وليس (حيا سكنيا) بأي حال من الأحوال.
إن (التصميم العمراني) المدروس للحي قد يزيد من المساحة الكلية لقطع الأراضي التي ستخصص للبيع فيه مقارنة بالتقسيم التقليدي, وهذا أمر مجرب, كما أن له دورا كبيرا في جذب المشترين للتملك فيه كونه يوفر المتطلبات البيئة الإنسانية لسكانه، ما سيسرع من زمن إنجاز بيع الأراضي فيه، وهذا عامل مهم آخر في أي تجارة، هذا إضافة إلى أنه سيجعل القيم المالية لعقاراته متزايدة مع مرور الزمن لتميزه. لذا فإن (كبر مساحة) الأراضي التي ستخصص للبيع في أي مخطط ليست العامل الوحيد لتحقيق الربح لملاكه.
وأقصد هنا (بتصميم عمراني) مدروس, هو أن تتحقق فيه المتطلبات (النموذجية): الوظيفية، المعمارية، الهندسية، والإدارية أيضا، مثل: مساحة الحي وعدد السكان وعدد الوحدات السكنية وأنواعها وخدمات الحي ومرافقه العامة، وتقترح الدراسات مثلا أن يكون متوسط عدد سكان الحي الواحد النموذجي منخفض الكثافة (فلل) ومكتمل الخدمات كليا: (7500 نسمة) (1000 فلة), وهو ما يعادل أقل من ربع عدد سكان حي المصيف مثلا! وأن يتم تقسيم الحي إلى (مناطق) و(مجاورات)، وعمل شبكة ممرات مشاة آمنة ومترابطة, وحدائق وساحات بمساحات متدرجة للحي وللمنطقة وللمجاورة, وشبكة ممرات للدرجات الهوائية, وشبكة طرق للسيارات مدروسة مروريا, وألا يتم الإكثار من عدد منافذ السيارات الداخلة والخارجة إلى الحي ومنه للتحكم الأمني في الحي ولتقليل الإزعاج والحوادث المرورية عندها، كل ذلك كي يتمكن السكان من التواصل فيما بينهم بأريحية والشعور بالانتماء لحيهم ومنطقتهم ومجاورتهم. كما أن لوجود مجلس إدارة للحي للإشراف على الحي عمرانيا واجتماعيا، دورا مهما في خلق حي صحي.
الخلاصة: إذا لم يع المطورون العقاريون وملاك الأراضي أن تطوير أحياء سكنية إنسانية مطلب وطني، وأنه يمكن أن يكون في الوقت نفسه مربحا ماديا لهم كما أسلفنا، فأين وزارة الشؤون البلدية والقروية وأمانة منطقة الرياض وربما وزارة الداخلية (لما في ذلك من أثر في أمن سكان الحي بشكل خاص والمدينة بشكل عام) من تحقيق أو فرض ذلك بالأنظمة؟!
لذا، فإن على وزارة الشؤون والأمانة والداخلية أيضا أخذ ذلك بمحمل الجد بداية بالأحياء السكنية (المستقبلية)، ثم بتأهيل الأحياء (القائمة) ما أمكن، وهذا ليس صعبا أو مكلفا كثيرا، وهو ما تم بالفعل لأحياء سكنية كثيرة في بعض مدن العالم كان حال تلك الأحياء أسوأ بكثير من حال أحيائنا القائمة، وأصبحت بعد ذلك مما يشار إلى حسنها بالبنان. كل ذلك لكيلا يبقى معظم أحياء الرياض السكنية (أسمنتا وأسفلتا وسيارات ومللا).