منذ قرون ظهر سؤال اقتصادي كبير، ثم اشتدت وطأته قبل أزمة الأسواق المالية عام 1933 ''هل يمكن أن يمتنع الناس عن الشراء لمجرد الرغبة في الاحتفاظ بالمال؟''. كانت النظرية السائدة والمعروفة عن سلوك الإنسان أنه مستهلك بطبيعته، لكنه أحياناً يقرر الامتناع عن الاستهلاك في الوقت الحاضر لتعظيم قدراته على الاستهلاك في المستقبل، وهذا يسمّى الادخار والاستثمار. فالنظرية تقول إن الإنسان الرشيد اقتصادياً يعمل على الادخار من دخله الحالي، ثم يقوم باستثماره حتى يتمكّن من تعظيم قدرته على الاستهلاك في المستقبل. وبناءً على ذلك لم يكن الكساد وارداً في أي نظرية اقتصادية قبل عام 1933، بل السائد هو ترك الأسواق تعمل بحرية كاملة وعدم التدخل الحكومي بأي شكل، فإذا ارتفعت الأسعار عن قدرة الناس على الشراء والاستهلاك فإنهم، طوعاً أو كرهاً، سيتجهون للادخار، ثم استثمار ما يدخرونه؛ رغبة في الاستفادة من طفرة ارتفاع الأسعار. وهذا يمنح الاقتصاد قدرات استثمارية أكبر فيتعاظم الإنتاج وتقل الرغبة العامة في الشراء؛ ما يجعل الإنتاج يتراكم فتعود الأسعار للتوازن من جديد. لكن ما حدث في الأعوام ما قبل 1933 أن الإنتاج العالمي تجاوز حدود رغبة الناس في الشراء، أو حتى رغبتهم في الاستثمار، فكان الاتجاه هو الادخار من أجل الاحتفاظ بالسيولة والنقد. وهذا بدوره تسبّب في تكدُّس الإنتاج، فتدخلت السياسة للتلاعب بالاقتصاد وبدأ شبح الحرب يلوح في الأفق؛ ما دعا الناس إلى مزيد من التقشف واتباع سياسة القرش الأبيض ينفع في اليوم الأسود، وكما يُقال اقتصادياً إن أفضل استثمار في وقت الأزمة هو الاحتفاظ بالنقد. وهكذا دخل العالم إلى أسوأ أزمة كساد في تاريخه، ولم يتحرّر إلا بتدخُّل الدول لضخ النقد إلى أيدي الناس لتشجيعهم على العودة للشراء، فتزايد النقد لديهم؛ ما عزّز لديهم روح الثقة بالمستقبل وعادت إليهم الرغبة في الإنفاق.
فلسفة القرش الأبيض لليوم الأسود فلسفة بذاتها عقيمة لا تجد سنداً لها، أخلاقياً أو اقتصادياً أو حتى شرعياً، فالإسلام حارب تعطيل الثروات بحجة الخوف من المستقبل؛ فقد اشتهر عن النبي الكريم - صلى الله عليه وسلم - أنه كان يعطي عطاء مَن لا يخشى الفقر، وجاء في القرآن الكريم قوله تعالى (وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ)، فالكنز من أجل الكنز مذمومٌ وهو يتسبّب ــــ إذا شاع بين الناس ــــ في كساد عظيم، لكن إذا كان من أجل انتظار الفرصة المناسبة للإنفاق والاستثمار فهو ادخارٌ محمود. ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط، فالاستهلاك الآني ضروري ليس للمستهلك فقط، بل للمجتمع كله، لكن في حدود معقولة أيضاً، فالادخار ضروري ليس للمدخر فقط، بل للمجتمع كل، والتوازن بينهما تحكمه الأسعار واتجاهات الاستثمار. الاحتكار محرّم شرعاً واقتصاداً ومجرّم قانوناً؛ ذلك أنه يغلق منافذ الاستثمار، أما المدخرات فإذا اتجهت الأسعار إلى الأعلى مع احتكار الأسواق ومنع الناس عنها ازدادت رغبة الناس في الادخار من أجل الادخار فقط وانتظار هبوط الأسعار، وهذا يعطل ماكينة الاقتصاد عن العمل. فالاحتكار يرفع الأسعار بمنع السلع عن الناس من جانب ومنعهم من استثمار مدخراتهم في الصناعة نفسها من جانب آخر، فهو خطيرٌ جداً يدمّر السلوك الاقتصادي الرشيد للناس فهم غير قادرين على التنبؤ باتجاهات الأسعار؛ ما يجعلهم في اضطراب اقتصادي بين الاستهلاك غير الرشيد؛ خوفاً من مزيد من الارتفاعات في الأسعار أو يجعلهم يقررون اتباع سياسة القرش الأبيض إذا عزّ عليهم طلب المنتجات وهكذا يدخل الاقتصاد في متاهات غير معروفة الأبعاد.
الأخطر من اتباع الناس العاديين لسياسة القرش الأبيض، أن تتبعها الشركات ومجالس الإدارات، فتجد الأرباح المحتجزة تتعاظم في خزائن الشركات بشكل مروّع، وكأن هناك أزمة مقبلة في هذا القطاع أو الاقتصاد والشركة تحتاط لذلك، فلقد تجاوزت الأرباح المحتجزة لدى عديد من الشركات رأسمال الشركة المصرح به، وفي الوقت نفسه تتعاظم لديها النقدية التي تحدّها سياسات الشركة المتخوفة عن دخول الأسواق، بينما يعاني المساهمون قلة ذات اليد. فسلوك القرش الأبيض لليوم الأسود يستمر مع البعض حتى وإن كان يدير شركة عملاقة تدر المليارات سنوياً. وهذا سلوكٌ خطيرٌ على الاقتصاد يزيد من قلق الناس ويتسبّب في حجز الثروات وتعطيل حركة الاقتصاد. هذا ونحن في زمن الازدهار الاقتصادي والسياسي فكيف إذا أرعدت، فهل سيتسبّب سلوكنا اليوم في كساد الغد، وهل ستجدي قروشنا البيضاء في الأيام السود؟
