يدخل المواطن الغربي أي متجر أو مطار أو مكان عام فتجده يبحث عن الصف، يذهب إن لم يجده ليستفسر من أي شخص يراه. تحترم هذه الشعوب الطابور وكأنه فرض، وكأن هناك من يراقبهم ليتأكد من انضباطهم والتزامهم به، ينعتهم بعضنا بالهوس من شدة تمسكهم بالطابور.
يأتي في درجة أعلى من الحضارة مفهوم احترام الخصوصية، يقف من يريد استخدام الصراف على بعد لا يقل عن ثلاثة أمتار، وإن كان الصراف مفتوحاً لا تحميه غرف وبوابات كما هو حال صرافاتنا، والحال نفسه في المطاعم، وتمتنع الجهات الأمنية والقضائية عن التفتيش في خصوصيات الناس، لأن القانون يحترم هذه الخصوصية، وغيرها كثير.
احترام النظام وخصوصية الآخرين التي تميز المجتمعات المتحضرة، دليل واضح على أن النشأة في البيت والمدرسة والعمل والمجتمع بشكل عام تركز على ضمان أن يحصل الكل على حقه. أذكر أن زميلاً حدثني عن النظام الداخلي للتعامل في شركة سويسرية يعمل فيها، يمنع منعاً باتاً الإساءة لسمعة أي شركة أخرى، حتى ولو كان الموظف يعلم أن الشركة المنافسة سيئة ويستطيع أن يثبت ذلك. في المقابل لم أتعامل مع شركة عربية حافظ موظفوها على سمعة منافسيهم ولو كانوا يعلمون أنني لن أصدقهم.
أزعم أن طغيان ''الأنا'' في عالمنا العربي منذ الأزل، هو أحد عوامل بقاء هذا العالم قابعاً في التخلف قبل الإسلام. حيث كان كل شخص يحاول أن يقلل من قيمة الآخرين ليكون هو صاحب القيمة. قضية التنافس ليكون الفرد ''الفارس'' الذي لا يشق له غبار، كانت قضية تحاسد وتباغض أدت في كثير من الأحوال لحروب دمرت فيها القبائل مقدرات بعضها، فضعف المنتصر والمهزوم، ليبقى الجميع رهائن للأنانية والتفكير في الذات والفخر بالانتماء لكيانات لم تكن تسيطر على أكثر من عشرة كيلومترات مربعة بينما دول كفارس وروما كانت لا ترى في هذه الأمة سوى التخلف والفقر والتناحر البغيض.
إضافة إلى الضعف والتخلف، كانت الأنانية إحدى وسائل استعباد الآخرين الاقتصادي والسياسي للعرب. يُحكى أن أحد ملوك العرب استنجد بكسرى فارس ليعيد له حكم والده، واستعد أن يقدم لكسرى ما يريد إن هو حقق له مطلبه. استشار كسرى كبار رجال ديوانه ورفض أكثرهم الفكرة، إلا أن أحدهم رأى أن يُعطى الملك 200 من عتاة المجرمين الذي يقبعون في سجون الإمبراطورية، فإن انتصروا ضمنوا مستعمرة جديدة، وإن هزم فقد تخلصوا من عتاولة مجرميهم، وكتب الله للملك النصر فأصبح خادماً لكسرى، رغم ما روي عنه من حكمة وفطنة.
الهدف من تلك الحرب كان استعادة الحكم لـ ''أنا''. لكنها في الواقع جعلت من الحاكم ''الظاهري'' أسيراً لكسرى. أصبحت تلك الدولة أحد مصادر دخل فارس بسبب هذه الرغبة في تحقيق الذات. إذاً فمحاولات تضخيم الذات تنطوي على ضعف بنيوي يجعل صاحبها أضعف بكثير مما يراه الآخرون.
يصدق هذا المثل عندما نتابع حديث إعلاميي الأنظمة التي ثار عليها الشعوب، نشاهد إعلاميي الأنظمة وهم يبجلون الشخص ويحاولون إقناع الناس بعظمته وتفوقه ونبوغه. ثم لا يلبثون أن يقلبوا ظهر المجن لكل من كانوا يمدحونهم، ولعل من يتابع الـ ''يوتيوب'' يشاهد كثيرا من الأمثلة التي تخلى فيها الإعلاميون عن الأنظمة التي سقطت، بل يتحولون إلى أجهزة ''كشف العيوب'' لتلك الأنظمة. نقارن هذا بما يفعله الإعلام الغربي من نقد واضح ومباشر للأنظمة، ومن يحكم أثناء حكمه، وكيف يتحول الإعلام إلى سلطة تغير العمل العام، وتسيطر على واقع الأمور داخل الدول، وتضمن أن يكون الجميع على المسافة نفسها من الحكومة. بمعنى آخر إلغاء ''الأنا''.
تبقى الأنظمة المتخلفة رهينة تضخيم ذوات كل المسؤولين، وكل من يريد أن يتقدم يعمل على التركيز على الشخص وليس النظام. هذا يجعل الدول دول أشخاص، وهو ما يفسر صعوبة الوصول إلى تشكيلات وزارية أو إدارية في كثير من الدول العربية التي تجد فيه كثيرا من المسؤولين متمسكين بالمنصب لعشرات السنين، ويعملون على ترقية الأشخاص الذين لا يهددون بقاءهم في تلك المناصب.
أذكر أنني استفسرت من أحد الخبراء كيف يوكل مديركم أمور العمل لفلان وهو يعلم أنه غير متمكن وشخصيته أبعد ما تكون عن القيادة واتخاذ القرار، ويضطر للاتصال به في كل شاردة وواردة. فقال هذا هو بيت القصيد، فلان لن يُقنِع أحداً بأنه سينجح في موقعه وهذا يضمن للرئيس البقاء. قلت له كيف تبقى أنت في جو ملوث كهذا؟ فقال: عندما أخرج من منزلي أراقب اتجاه الرياح وأتجه معها، وهذا يضمن ترقيتي وبقائي واحترامي من قبل الجميع.
لسيطرة ''الأنا'' علامات بسيطة تظهر في سلوكيات يومية نراها، بل نشارك فيها جميعاً، نتجاوز الدور في السوق وفي البنك وإشارات المرور. نفضل أبناء عمومتنا في التعيين والترقية. نخالف أنظمة البناء وقوانين النظافة، يبحث خريج جامعة الملك فهد عن وظيفة لأكثر من عام، وتحجز الوظيفة لخريج كلية متردية سمعتها سيئة قبل أن يتخرج، يتضخم عدد حاملي شهادات الدكتوراة والماجستير والبكالوريوس الوهمية بشكل قد يكون فريداً في العالم. يغضب الطبيب إن ناديته باسمه دون كلمة دكتور والمهندس والمحامي والضابط كذلك. ويزيد غيظ المراسل إن لم تناده بأبي فلان. ونظل نراقب العالم وهو ينطلق للأمام بينما نحن نتراجع. وقد قال شاعرنا المفوه أبو فراس الحمداني:
ونحن أناس لا توسط بيننا لنا الصدر دون العالمين أو القبر فهل نحن في الصدارة؟
