«مزلقان» مرسي الاقتصادي
«مصر ليست بلداً نعيش فيه، بل بلد يعيش فينا»
البابا شنودة الثالث الراحل
الحالة في مصر اليوم، هي نفسها التي كانت قبل سبعة أشهر، أي عندما وصل محمد مرسي إلى كرسي سلفه المخلوع حسني مبارك. البعض يقول: إنها أسوأ مما كانت عليه يوم الوصول، والبعض الآخر يذهب أبعد من ذلك، فيعتبر أنه من فرط السوء، باتت المساوئ الجديدة غير منظورة. فلا المائة يوم الأولى (التي منحها مرسي لنفسه)، متعهداً بطرح شيء ملموس على الساحة، تحقق منها شيء، ولا ''أنتجت'' حتى مؤشرات على أنه في مئات الأيام المقبلة ستحقق شيئاً. وهذا ما دفع المصريين للنزول بقوة إلى شوارع البلاد، ليس لأنهم عاطلون عن العمل، أو ''لا شغلة ولا مشغلة'' – كما يروّج أنصار مرسي - ولكن ليحموا ثورة اندلعت بـ ''الأمس''، من أجل عدالة اجتماعية وخبز، واستكمال استعادة كرامة اغتُصبت منهم على مدى ثلاثة عقود.
كل حوادث القطارات الخطيرة الأخيرة في مصر، انفجرت في ''المزلقانات''، التي شكلت ''المحطات'' الأخيرة لها. لكن ''مزلقان'' الحكم في مصر، تتفرّع عنه مجموعة من ''المزلقانات'' أو الروافد، تكاد تكون بلا نهاية، أو في أحسن الأحوال، محطاتها مجهولة. من ''مزلقان'' السياسة إلى الدستور فالبرلمان فالقضاء فالأمن فالجيش فالمجتمع، وبالطبع الاقتصاد. لا يمكن مطالبة مرسي وحكومته بحل جذري سريع لمصائب الاقتصاد المصري. ففي سبعة أشهر، وحتى في عامين، يستحيل إعادة صياغة اقتصاد مليء بثقوب سوداء ابتلعت (وتبتلع) كل شيء عابر من أمامها. غير أنه في هذه الفترة التي قضاها مرسي في الحكم، لم تظهر أي علامات لوجود رؤية اقتصادية واضحة. ولذلك ظلت تبريرات الفشل هي السائدة على الساحة، بعنوانها العريض ''الحق على النظام البائد''! إلى جانب عناوينها الفرعية التي لا تنتهي. وهذا حال يُذكّر بما قاله الأديب الآيرلندي برنارد شو: ''للناجح خطة وبرنامج، وللفاشل المبررات''.
لم يحظ مرسي بتعاطف شعبي يساعده على مهمة بناء اقتصاد جديد للبلاد، ليس لأنه لم ينجح في الانتخابات الرئاسية بصورة ساحقة، بل لأنه لم يصل حتى إلى مفهوم أولي في معركته الاقتصادية، أو في ''مزلقانه'' الاقتصادي. هذا إلى جانب تخبطه في صُنع القرار السياسي والاقتصادي في آن معاً، وتراجعه السريع عن قرارات اتخذها، والفوضى السائدة على صعيد مؤسسة الرئاسة نفسها، وضعف مرعب لحكومته. في ظل هذا المشهد المخيف، كان لا بد لأدوات الاقتصاد، إما التراجع أو التوقف أو الاختفاء. ماذا حدث؟ انخفضت قيمة الجنيه، وتراجعت موجودات البنك المركزي، وتقلّص النمو، وهبط معدل الاستثمار، واقتربت المفاوضات مع صندوق النقد الدولي إلى ''المزلقانات'' المظلمة، وأخذت الدول الراغبة في المساهمة بعملية بناء الاقتصاد المصري، تعيد النظر في رغبتها، أو على الأقل ''فرملت'' اندفاعها. وماذا حدث أيضاً؟ عمّ هتاف ثورة يناير 2011 ''عيش.. حرية.. عدالة اجتماعية''، أجواء عام 2013. ولكن هذه المرة بـ ''لحن'' لا يشبه ''اللحن'' الأصلي. ''لحن'' متناغم مع مصير ثورة، يُفترض أنها أتت بمرسي نفسه إلى الحكم!
لا يمكن لمرسي إلا مواجهة الحقيقة. ولا يستطيع التملُّص من مسؤولية التراجع المُخيف لقيمة العملة الوطنية. فقد أنفقت مصر على هذه العملة في عامين أكثر من 20 مليار دولار أمريكي، في نضال مرير للحفاظ على قيمتها، الأمر الذي أدّى إلى انخفاض احتياطي البنك المركزي من القطع الأجنبي إلى 15 مليار دولار. كما لا يمكن إعفاؤه من فظاعة تبخر حجم الاستثمارات الأجنبية، من مليارَيْن في عامَيْ 2011 و2012، إلى 180 مليون دولار فقط في الشهر الأول من العام الحالي، وربما إلى الصفر في منتصف العام. وانخفضت قيمة هذه الاستثمارات إلى 11 في المائة من الناتج المحلي في 2013، في حين سجّلت 16 في المائة في العامين الماضيين. علينا أن نتذكّر دائماً، أن المستوى المطلوب لهذه الاستثمارات، ينبغي أن يكون ما بين 20 و30 في المائة من الناتج المحلي، من أجل تحقيق شكلٍ من أشكال التنمية المستدامة!
بحثت عن مراقب اقتصادي محايد واحد، يمكن أن يقدم صورة أقل قتامة للاقتصاد المصري. لم يظهر أمامي سوى عدد قليل من أولئك الذين يساندون مرسي وحكومته. وهؤلاء في الواقع يطرحون الاقتصاد، ليس وفق نظريات السوق والمجتمع، بل في نطاق ''الماورائيات''، بمن فيهم مَن أكد أن إنتاج القمح المصري ارتفع بـ ''بركة مرسي''! والمصيبة ليست في ''اقتصاد البركة''، بل في أنهم أكدوا ارتفاع الإنتاج في غير موسمه! ولو ضغط عليهم، لقاموا بتعداد أكياس القمح واحداً واحداً! ويبدو أن هذه ''البركة'' خاصّة بقطاع القمح الوهمي، ولا تنسحب على العملة والاستثمارات والغلاء وانكماش الرغيف، وتأخُّر الرواتب، وطبعاً لا دخل لها بـ ''جيوش'' المتعطّلين عن العمل. كما أنها ليست قوية بما يكفي لـ ''تركيع'' مفاوضي صندوق النقد الدولي.
لن تنتهي مصائب ''مزلقان'' الحكم الراهن في مصر في رافده الاقتصادي. فهذا ''المزلقان'' بمنزلة محطة القطارات الكبرى، التي تصب فيها كل الخطوط والرحلات. الفارق بين رافد وآخر، هو حجم وفداحة الانفجارات والخراب والهموم والأوجاع في هذا الرافد أو ذاك.