الشفافية والبحث العلمي
يقال إن طالب دراسات عليا سعوديا يدرس في أمريكا أراد أن يدرس، كموضوع لرسالة الدكتوراه، إحدى خطط التنمية فجاء من هناك إلى وزارة التخطيط على أمل أن يحصل على الخطة المعنية، فرُفض طلبه من قبل الإدارة التي راجعها في الوزارة وبذل جهوداً مضنية، لكن جهوده باءت بالفشل فعاد أدراجه حزيناً لأنه في هذه الحالة سيضطر لتغيير الموضوع الذي بذل فيه جهداً وتمت الموافقة عليه في القسم الذي يدرس فيه، وفور وصوله مقر دراسته فاتح مشرفه في الموضوع فأرشده إلى البحث عن خطة التنمية في مكتبة الكونجرس، وبالفعل وجد ضالته واستعار الخطة وأنجز رسالته وعاد لبلاده متوجاً بالدرجة العلمية.
هذه القصة يتم تداولها كثيراً منذ فترة طويلة، وسواء صدقت الرواية أم لم تصدق فالموضوع له أساس في واقع حياتنا الإدارية، ذلك أننا نجد تعنتاً وتصلباً في بعض الإدارات في الحصول على المعلومات لأغراض الدراسة أو البحث، فالقائمون على بعض الإدارات يرفضون مثل هذا الطلب، والأسباب كثيرة، منها أن المدير أو المسؤول لا يؤمن بأهمية البحث العلمي وقيمته في حياة الأمم والتنمية وحل المشكلات الاجتماعية والاقتصادية، لذا لا يتعاون مع الباحث، ويحجب عنه المعلومات لعدم إدراكه قيمة وأهمية البحث العلمي، وقد يتسبب المسؤول في هذا التصرف في حرمان إدارته من نتائج تفيده في مجال عمله وتسهم في حل الكثير من المشكلات التي تواجهها الإدارة أو المجتمع بصورة عامة.
من الأسباب أيضاً جهل المسؤول بالأنظمة، إذ قد يُفهم خطأً أن النظام يمنع التمكن من الحصول على المعلومات، ومثل هذا وارد في بعض الأمور والقضايا الحساسة التي قد تضر بأمن الوطن واستقراره، لكن مثل هذه المواضيع محدودة ونادرة، حتى مثل هذه المواضيع يمكن دراستها، لكن نتائجها تعامل بطريقة تضمن عدم إساءة استخدامها، ولنا في غيرنا من الأمم عبرة، حيث تصنف المعلومات حسب أهميتها ودرجة سريتها لفترة ثم تزول هذه السرية.
من الأسباب أيضاً التعنت لمجرد التعنت دون مبررات واضحة ومقبولة، وهذا قد يعود لنمط شخصية المسؤول وأسلوبه الإداري المتسم بالتصلب والمركزية، وهذا النمط من المسؤولين قد يوجد في هذه الإدارة أو تلك، وهم بمثل هذا التصرف يحرمون الباحثين من المعلومات المتكدسة في الأدراج وفي الملفات والأضابير لتؤول في النهاية إلى المستودعات لحفظها إلى الأبد، أو تنتهي إلى سلة المهملات، ويحرم البلد من جهد يقوم به باحث في جامعة أو مركز بحث.
الكشف عن معلومات ودراستها لا يقتصر على الباحثين والدارسين في الجامعات والمعاهد العليا، بل رجال الإعلام المتخصصون لهم دورهم في نشر الحقائق، وإبرازها للناس حتى تكون محل عناية واهتمام المستفيدين من هذا القطاع أو ذاك، وهذا يحدث وعياً بالواقع وحراكاً اجتماعياً يساعد على إيجاد تغييرات وتحسين في الخدمات المقدمة للناس بدلاً من تجاهل الواقع وترديد ''كل شيء على ما يرام''، وهو خلاف ذلك.
الاستفادة من البيانات والمعلومات سواء على مستوى الجهاز الإداري أو على مستوى الوطن تتطلب تنظيمات تسهل الوصول للمعلومات دون منة أو تفضل من أحد، كما تتطلب تغيير تفكير بعض المسؤولين إزاء البحث العلمي ومفهوم السرية الذي اختلقته العقلية البيروقراطية أو الرغبة الذاتية في التحكم والسيطرة التي توجد عند بعض الأفراد حين تكون لديهم مسؤولية في جهاز من الأجهزة.
إن كشف الواقع من خلال الواقع بإيجابياته وسلبياته لا يمكن أن يتحقق من دون الشفافية وكسر الحواجز البيروقراطية، وتحري الموضوعية من قبل الباحث، والنتيجة الحتمية لسبر الواقع مصلحة عامة وعون للأجهزة الحكومية على أداء مهماتها بالشكل المناسب والصحيح، لذا لا خطر من البحث العلمي، بل الخطر في التكتم وتفعيل قانون سرية القاتل.