قمة التنمية.. التخطيط من أسفل إلى أعلى
انعقدت القمة العربية للتنمية الاقتصادية والاجتماعية لدورتها الثالثة في العاصمة السعودية الرياض في ظروف استثنائية وحرجة تشهدها المنطقة العربية. فما حدث ويحدث في بعض الدول العربية من تغيرات جذرية سميت ''الربيع العربي''، دليل على أن شعوب تلك الدول لم تعد تحتمل حالة التصحر السياسي والاقتصادي وتتطلع إلى حياة كريمة تستوفي احتياجاتها المعيشية وحريتها السياسية. فثالوث الشر (الجهل والفقر والمرض) لا ينتشر إلا بالبيئات السياسية التعسفية المتسلطة الفاسدة. ولم تتطلب تلك الثورات الشعبية سوى قنوات للتواصل تمنحهم رؤية الأمور من منظور مشترك وخلق تصور موحد في عقولهم يقودهم نحو اعتقاد راسخ أنهم يرون ذات الظلم من زوايا مختلفة وبأساليب متعددة تطول جميع مناحي الحياة. في تلك الدول جاء العسكر على الدبابات واغتصبوا شرعية السلطة وحرية الناس باسم الشعب فتسلطوا على رقاب العباد ورفعوا شعارات رنانة بطولية تثير العواطف فلا صوت يعلو فوق صوت المعركة، والنتيجة تكتيم الأفواه والحريات وهزائم نكراء وانتكاسة إلى الوراء. والنظام السوري المجرم السفاح المعتدي الذي لا يرقب في مؤمن إلاً ولا ذمة مثال حي على ذلك. فها هو يقتل ويدمر ويستخدم كل الأسلحة الحربية ضد شعبه، فيما لم يطلق رصاصة واحدة في اتجاه إسرائيل ما يشهد على خيبته وتواطئه مع إسرائيل، وكان من قبل يقول بالتصدي ومواجهة العدو! هذه الأنظمة التعسفية التي تحكم بالحديد والنار غير شرعية لأن الحكم لا ينعقد إلا بعقد اجتماعي وبيعة شرعية يرتضي فيها الناس الحاكم على أساس من القيم التي يعتقدونها ويؤمنون بها. أسوق هذا الوصف لحال الأنظمة العربية العسكرية التي طغت في البلاد وأكثرت الفساد، لأنه لا نهضة وتنمية دون احترام للشعوب، فالتنمية منهم وإليهم! والحقيقة التي لا لبس بها أن الإصلاح الاقتصادي يتطلب صلاحا سياسيا، وتطبيق الشرع هو الصلاح الذي يجلب النعم ويدفع النقم، يقول تعالى ''وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَـَذَا بَلَداً آمِناً وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُم بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ''. بعض من تستهويهم الأفكار المستوردة ومن يعتقدون بالتقدمية الشكلية بشعارات خاوية يقولون إن الرخاء الاقتصادي في دول الخليج نتيجة لعوائد البترول! لكن دولا أخرى تدعي التقدمية تمتلك البترول وأكثر، لم تستطع تطوير بلدانها بالمستوى ذاته. لا شك هناك مساحة واسعة لتحسين الأوضاع في دول الخليج، وهي ليست دولاً ملائكية فهناك أخطاء وقصور، لكن مقارنة بدول أخرى في المنطقة هي أحسن حالا. ميزة الدول الخليجية أن أنظمتها السياسية متوافقة مع ثقافة الشعوب، هذا لا يعني أنها في وضع الكمال، بل هناك ضرورة للتكيف مع المستجدات وإبراز قيم نظمها السياسية بأساليب جديدة تتناسب مع معطيات العصر. لكن الدرس المستفاد من التجربة الخليجية هو حرص الأنظمة على الاقتراب من المواطن والتعامل معه على أساس من العلاقة الأبوية.
وإذا كان الصلاح السياسي شرطا للتنمية الاقتصادية فإن اللامركزية هي النهج الأكفأ لتحقيقها. فمشكلة التنمية في الوطن العربي أن مشاريعها لا تأخذ بالاعتبار متطلبات المواطن العادي، خاصة الفئات الأقل حظاً، وهي في الوقت ذاته تتركز في المناطق الحضرية الكبرى على حساب المناطق الريفية والأطراف. والسبب الرئيس أن التخطيط المركزي يعجز في كثير من الأحيان عن إدراك الاحتياجات الفعلية للمجتمعات المحلية. فهناك اندفاع نحو تحقيق كفاءة الإنتاج على حساب كفاءة التوزيع، فالوضع الراهن في الدول العربية يشهد سيطرة النخب الاقتصادية على القرار الحكومي المركزي. فالشركات الكبيرة التي تعدّ على أصابع اليد الواحدة تستحوذ على النسبة الكبرى من الدخل الوطني. تركّز الثروة في أيدي القلة يقلل من فرص النمو الاقتصادي وخلق فرص وظيفية، الاستجابة للاحتياجات الحقيقية للسكان المحليين وانحسار الطبقة الوسطى العمود الفقري لأي اقتصاد. المشكلة في الوطن العربي ليست في شح الموارد المالية، لكن سوء إدارة وتوزيع وإخفاق في وضع الأولويات، بحيث تقام المشاريع العامة دون استراتيجية لتحقيق أهداف وطنية تنموية طويلة المدى. كما أنه ليس هناك منظومة اقتصادية وصناعية توجه الجهود وتخلق التكامل بين الصناعات الصغيرة والمتوسطة والكبيرة. وما يزيد الطين بلة أن القطاع الخاص يقتات على الإنفاق الحكومي إما تنفيذا للمشاريع أو دعما ماليا أو ضمان شراء المنتج. لذا لم يكن مستغربا دعوة رجال الأعمال العرب الحكومات لمزيد من الدعم المادي والمعنوي.
المطلوب في هذه المرحلة الحاسمة والحرجة أن يعاد النظر في الهيكل الاقتصادي والصناعي والسياسي في الدول العربية ليكون التخطيط لا مركزياً من أسفل إلى أعلى في إطار استراتيجية وطنية عامة. المبدأ هنا أن أهل المحليات أدرى باحتياجاتهم وأعرف بأولوياتهم وأكثر قدرة على معالجة مشكلاتهم وأكثر حماسا للمساهمة في نشاطات التنمية. ذلك أن التنمية المحلية الأقرب للمواطنين، وهي في الوقت ذاته جذور التنمية الوطنية، وهذا لن يتحقق إلا بمنح الهيئات المحلية الاستقلال الإداري والمالي للقيام بأدوارها التنموية. لقد مل الناس العناوين الكبيرة والمشاريع الكبيرة لأنها لا تحقق طموحاتهم ولا تلبي احتياجاتهم، وآن الأوان في أن يشارك الناس في صناعة التنمية والاستفادة من مخرجاتها. ولكسر حالة الاحتكار للشركات الكبيرة يقترح إنشاء شركات تنموية للأعمال المدنية وأخرى صناعية في المناطق والمحافظات بتمويل حكومي وتطرح نسبة من أسهمها للاكتتاب العام المحلي. هذه الشركات تمنح سكان المحليات المشاركة في القرار الاقتصاد المحلي عبر شراء الأسهم، كما أنها تخلق فرصا وظيفية بأجور تحسن من مستواهم المعيشي. التنمية هي استكشاف الإمكانات وتوظيفها، وإلى الآن تقف جهود التنمية في الوطن العربي عاجزة عن تحقيق ذلك لأن خططها التنموية فوقية لم تستطع أن تستوعب احتياجات الناس الذين يفترض أن تكون التنمية من أجلهم، فهل تمنح إدارة التنمية المحلية للسكان المحليين بدلا من فرضها عليهم من بعيد مركزيا؟ وهل يتم الاعتراف أن التنمية المحلية هي جذور التنمية الوطنية؟ هذا جميعه يتطلب التخطيط من أسفل إلى أعلى وليس العكس!