في الوقت الذي يعاني فيه أكبر اقتصاد في العالم خطر الهاوية المالية، وتنتقل شعوب بأسرها من الغنى إلى الفقر، ومن الرخاء للشدة، ومن الأمن للاضطراب، تأتي ميزانية المملكة لعام 2013 ميزانية قمة مالية بكل ما تعنيه الكلمة من معنى، وتحمل معها أمنا اقتصاديا ورخاء وهي تعلن اعتماد مصروفات ضخمة تبلغ 820 مليار ريال ومعها فائض إيرادات يبلغ تسعة مليارات ريال. إنها ميزانية تحمل بشائر استقرار مالي مع انخفاض الدين العام حتى 3 في المائة من الناتج المحلي وتقر مشروعات إضافية تقدر قيمتها بثلث الميزانية. إنها ميزانية الخير كالعادة يتوسع فيها الإنفاق وتضخ الحكومة المليارات في شرايين الاقتصاد (820 مليارا سيتم إنفاقها) بخلاف ما تم تخصيصه للمشاريع القائمة فعلا وبخلاف الفائض الضخم الذي حققته الدولة من ميزانية عام 2012 (400 مليار ريال).
ورغم هذه السعادة الغامرة بهذا الاستقرار الاقتصادي الكبير، الذي من المتوقع أن ينعكس بشكل طيب على سوق المال والتمويل، إلا أنه يجب ألا تأخذنا السعادة مداها لننسى المشكلات التي نواجهها سواء في اعتماد مصروفاتنا على إيرادات النفط أو في طريقتنا في استثمار هذه الفرص التاريخية التي نمر بها. فمع الإيرادات الضخمة التي تجاوزت 1200 مليار كان نصيب النفط منها 92 في المائة، أي أكثر من 1100 مليار ريال. وهذا معناه أن النفط وحده مول جميع مصروفاتنا لعام 2012، التي تجاوزت 850 مليارا. ولا جديد هنا، فمن المتوقع أيضا أن يمول جميع مصروفاتنا للعام المقبل. إن هذا الاعتماد المتزايد على النفط، الذي لم نجد له حلا حتى الآن، يخلق قلقا مستمرا لنا. ذلك أن الإيرادات الأخرى (في جزء منها تعتمد على دخول المواطنين الناتجة أصلا من تدفقات النفط) وهي رغم هذا لم تخلق لنا سوى 100 مليار. وهذا معناه أن الانخفاض في أسعار النفط أو إنتاجه (وهو أمر لا مفر منه اليوم أو غدا، لأن النفط مادة ناضبة غير متجددة) سينعكس بصورة دراماتيكية على هيكل الميزانية لنتحول من الفوائض والإنفاق إلى العجز وشد الأحزمة، بل سينقلنا من الازدهار إلى الانكماش فورا. فكل انخفاض في أسعار النفط أو مستويات إنتاجه (عن الأسعار المقدرة في الميزانية وهي متحفظة) سيؤثر في الميزانية بنسبة أكثر من 92 في المائة. فإذا كانت إيرادات الميزانية مقدرة عند 80 دولارا للنفط وانخفضت الأسعار إلى 70 دولارا مثلا (أي نسبة 10 في المائة من السعر المقدر في الميزانية) فإن العجز في الميزانية قد يصل فورا إلى أكثر من 9.5 في المائة. ولهذا فإن الاعتماد المتزايد على النفط يزيد قلقنا، خاصة إذا استمر تنفيذ الميزانية بهذا الوضع.
فمع أن التعليم لا يزال يأخذ نصيب الأسد من الميزانية بقيمة 204 مليارات (25 في المائة)، وهو يمثل اتجاها رئيسا لرؤية خادم الحرمين الشريفين في تنمية المواطن السعودي وتنمية مهاراته حتى يصبح الفرد السعودي نفسه مصدرا للثروة، إلا أن بطء الإنجاز في هذا القطاع وتعثر مشاريعه لم يزل مصدرا للقلق ولا تزال الأسئلة قائمة، ورغم حجم الاعتمادات الموجهة لإنشاء مدارس جديدة (بلغت أكثر من ألفي مدرسة في ميزانيات سابقة و500 في الميزانية الحالية) إلا أن مدارس الميزانية الماضية والتي قبلها لم تزل تبحث عن أرض للبناء، وهذا ما يجعل تنفيذ الميزانية وبرامجها يرزخ تحت غبار من البيروقراطية التي تعوق الإنجاز وتعلق المشاريع وتجعلنا لا نشعر بفارق كبير بين ما تعلنه الميزانية من زخم كبير وبين ما نلمسه في الواقع المعاش. كما ما زالنا نعاني مخرجات التعليم العام التي لا تتناسب مع احتياجات المملكة ومستقبلها.
وإذا كان التعليم العام يعاني مشكلات عميقة فإن التعلم العالي ليس بعيدا عنه، وذلك رغم الاعتمادات الضخمة لإنشاء المدن الجامعية التي توزعت في هذا العهد الزاهر من شرق البلاد إلى غربها ومن شمالها إلى جنوبها. وما زلنا نشكو من عدم مواكبة مخرجات التعليم العالي احتياجات سوق العمل، ومع ذلك لم نلمس تطورا كبيرا بعد في هذا المجال. وبينما تعاني بعض التخصصات نقصا وشحا تعاني تخصصات أخرى تضخما، وتبقى معادلة توزيع الطلاب على التخصصات عصية على الحل رغم الإنفاق الضخم الذي تدفعه الحكومة كل عام. تم تطوير برنامج قياس من أجل فحص أفضل لقدرات الطلاب واستحدثت الجامعات السنة التحضيرية، ما زاد الأعباء، بينما بقيت مخرجات التعليم بعيدة عن متطلبات سوق العمل التي تعج بعمالة أجنبية كبيرة. في المسار نفسه لا يختلف حال القطاع الصحي كثيرا عن حال التعليم. فرغم الزيادات المستمرة في نمو الإنفاق على هذا القطاع تبقى مشاريعه متعثرة وما زال هناك العديد من المستشفيات عالقة في ميزانيات السنوات السابقة والمشكلة بلا حل، وقوائم الانتظار في تزايد مستمر والشكوى الدائمة هي البحث عن سرير.
ومع ظاهرة نمو المصروفات والإيرادات – كأرقام - تتعثر المشاريع في أرض الواقع، ما يجعل تحليل الميزانية والحديث عن نمو الإنفاق فيها من فضول القول. فالميزانية كل عام تتحفنا بأرقام مميزة، وكل عام والخير يتدفق على هذه البلاد، ومع ذلك تبقى عقدة التنفيذ ملازمة لنا. وإذا كانت أرقام الميزانية تشير إلى فوائض ونحن في زمن السقوف العليا في الإنفاق، فإن التنفيذ لم يزل عالقا في سنوات التقشف. هذه الأخطاء في تنفيذ الميزانية تجعل الوظيفة التخطيطية للميزانية تفقد معناها تماما، حيث تنعزل الأرقام عن الواقع وقد لا نجد انعكاسا حقيقيا للميزانية إلا في نمو الأرصدة والودائع البنكية، وزيادة تحويلات الأجانب التي فاقت 100 مليار سنويا، بينما يظل المواطن يبحث عن عمل تحت أمطار من مليارات الإنفاق السنوي. لذلك ومهما قيل عن تحليل أرقام الميزانية فإن سدا منيعا من أخطاء التنفيذ سيجعل سيل الإنفاق ينحسر عند منعطفات المشاريع. ويبقى المواطن البسيط يسأل: أين تصرف الميزانية فعلا؟