أسباب فشل الجماعات الإسلامية في إدارة الدولة المدنية
تظهر بين الوقت والآخر أحزاب وتنظيمات، بل أحيانا دول، تتخذ من الدين الإسلامي رسالة لها ومن القرآن منهجا ومن سيرة الرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - طريقا فيستأنس الناس بها ويتعاطفون معها ويدعون لها ويدعمونها.
فقد تكونت حركة طالبان ونشرت مبادئها للناس حتى وثق بها الشعب الأفغاني، فمكنها من الحكم واعترفت بها بعض الدول العربية والإسلامية، وعندما رأت أنها تمكنت وأن لها قبولا في العالم الإسلامي وشعوبه استعجلت تطبيق مبادئ الإسلام في عصر تغيرت فيه الأحوال، فقطعت يد السارق وأقيم حد الرجم على الزاني، وهذه وإن كانت من صلب أحكام الدين الإسلامي التي لا ينكرها إلا كافر أو جاهل، إلا أن هذا ليس وقت إظهارها، وكان من الأجدر لطالبان تأجيل مثل هذه الأحكام إلى مراحل متأخرة حتى يكتمل بناء الدولة ويستوعب الشعب الأفغاني والشعوب العالمية مثل هذه الأحكام، فأفغانستان لا تعيش بمفردها، فوسائل الاتصال قربت البعيد، فما يحدث في قرية نائية لا تصلها الشمس يعرفه القاصي والداني. وهذا ليس إنكارا لمنهج الإسلام، بل الحكمة تقتضى تأجيل تطبيق مثل هذه الأحكام كما فعل عمر بن الخطاب - رضى الله عنه - عندما أجّل بعض الحدود منها قطع يد السارق في عام الرمادة، حينما انتشر الفقر في المدينة، فقد تنبه الفاروق إلى أن المسلم قد يسرق ليس من أجل السرقة، لكن ليطفئ لهيب الجوع في أحشائه، فأجل - رضى الله عنه - تطبيق حد "قطع اليد" حتى زالت الغمة عن المسلمين في المدينة. ولو أن طالبان فطنت إلى هذا وعلمت أنها دولة في مهب الريح وأن العالم يعلم ما يحدث في أركانها لما تكالبت عليها الأمم.
وها هي القاعدة نرى كيف مارست العمل المسلح والخراب والتدمير فتكالب عليها العالم، ومنهم المسلون دولا وشعوبا، نراها كيف تسوّق لنفسها بطريقة يبغضها المسلمون قبل غيرهم حتى أصبح اسمها مرادفا للإرهاب، وذكرها يثير الرعب والخوف، وهي تفعل كل هذا من أجل الإسلام، والإسلام رديف للسلام والطمأنينة والأمان.
ثم فاجأتنا جماعة الإخوان المسلمين بعد أن مكّن الله لهم حكم مصر بعد سنين من الكفاح والتهميش والإقصاء، فقد تعرض أعضاؤها لجميع أنواع الظلم والإهانة، ما بين قتل وسجن وتعذيب، حتى أننا جميعا تعاطفنا معها وكنا ندعو الله أن يمكن لهم لنرى كيف يفعلون. وشاء الله لجماعة الإخوان أن تتزعم قيادة مصر وتحكم القبضة على مصدر صنع القرار في أرض الكنانة، وما هي إلا أشهر معدودة حتى غيّرت جلبابها وكشفت عن نواياها واستعجلت النتائج كما فعلت طالبان من قبل، فقسمت الشارع المصري إلى فسطاطين، فريق في الجنة وفريق في السعير. ولا تقل لي إن هناك دولا عظمى ومنظمات كبرى ومحطات فضائية مغرضة تقف وراء ما يحدث في مصر، فليس هذا مبررا للإخوان لأن يقسموا البلد إلى شيع ومذاهب يذيق بعضهم بأس بعض، ولا نريد أن نتخذ من ذلك ذريعة، فقد كان من الأجدر لجماعة الإخوان أن يكونوا على مستوى الحدث ويديروا البلد ببراعة ويعلموا أن لهم أعداء، فمن لا يقرأ المستقبل ويستشف خباياه لا يستحق قيادة الدولة. من الطبيعي أن لهم أعداء داخل مصر وخارجها، كما أنهم هم أنفسهم غير مرغوب فيهم من قبل نسبة كبيرة من الشعب المصري المسلم ناهيك عن الأقباط، وغير مرغوب فيهم من قبل بعض الشعوب العربية والإسلامية رغم سلامة منهجهم وصلاح طريقتهم، ولولا الوضع المهين الذي كانت تعيشه مصر في آخر عهد مبارك لما قام للإخوان دولة.
لقد تكونت في ذهني عدد من الأسباب لتفسير فشل المنظمات والأحزاب الإسلامية - في مقدمتهم جماعة الإخوان - في تكوين دولة تتعايش مع العالم وتأخذ وتعطي وتتبادل المنافع وتمدّ جسور المحبة مع الشعوب والدول والحكومات. أول وأهم الأسباب - في رأيي - رغبة هؤلاء في نقل الفكر الإسلامي بكل آلياته التي كانت تدار بها الدولة في صدر الإسلام إلى عصرنا هذا، وهذا غير ممكن، فالأمور اختلفت والأجيال تبدلت والثقافات امتزجت.
الآليات التي كانت تدار بها الدولة في صدر الإسلام غير مناسبة للعمل بها في الوقت الحاضر، فقد أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أمة انتشر فيها الجهل لدرجة أنهم يعبدون حجرا أصم لا يتكلم ولا يتحرك فأتاهم بدين جديد لم تستوعبه عقولهم ولم تكن هناك وسيلة لتثبيت دين الله في تلك الحقبة سوى القوة، واستخدم - صلى الله عليه وسلم - القوة لحمايتهم من أنفسهم قبل كل شيء. أما الآن فالناس يعرفون الإسلام سواء أكانوا مسلمين أم غير مسلمين فلم يعد نكرة، بل من أشهر الديانات حول العالم إن لم يكن أشهرها على الإطلاق وله قبول واحترام في كثير من الدول والثقافات، ويستطيع المسلم أن يمارس شعائره في أغلبية دول العالم بكل راحة وأمان. ورغم كل هذا إلا أن هذه الجماعات تحاول استفزاز الرأي العام فتصنف عباد الله إلى مسلمين (من يؤمنوا بمنهجهم) وكفار (وهم سائر الناس حتى لو كانوا مسلمين). ونحن نتساءل: كيف يشهد هؤلاء لأهل القبلة بجنة أو نار رغم أن المصطفى صلى الله عليه وسلم قد نهى عن ذلك؟ فهذه من مهام الأنبياء والرسل، فرسولنا الكريم بشر بعض الصحابة بالجنة والبعض الآخر بالنار ولم يتجرأ أحد على مر العصور أن يشارك محمدا نبوءاته بتصنيف المسلمين إلى فريقين، فريق في الجنة وفريق في السعير.
وهنا أريد أن أختم فأقول إن الرغبة في نسخ النموذج الإسلامي للدولة في صدر الإسلام إلى زماننا هذا أراه السبب الجوهري لإخفاق كثير من الجماعات الإسلامية في إدارة الدولة المدنية، وهناك أسباب أخرى لا يتسع المكان لذكرها أترك استنباطها للقراء الكرام لعلهم يشاطروننا الرأي حتى تعدل هذه الجماعات من آلياتها وتهذب أفكارها كي نصل إلى بناء دولة إسلامية بمواصفات عصرية، فرغم كل هذا فإننا والله نحبهم ونقدر حرصهم على الإسلام ونعلم سلامة منهجهم إلا أن آلياتهم أضرت بالإسلام أكثر مما أفادته.