غلاية ماء, وأدوات تحضير الشاي, وضعت فوق طاولة صغيرة, يجلس بجوارها على مقعد خشبي رجل مسن تجاوز السبعين خريفا من العمر, يقدم هذا المشروب الساخن للحجاج وبالمجان, الابتسامة والإشارة الخفيفة باليد هي لغة التخاطب بينه وبين الحاج الذي لا يجيد العربية.
هذا المشهد اعتاد على تنفيذه العم محسن الشريف, في كل عام في منطقة العزيزية, والتي تصطك فيها أرتال من المركبات مخترقة صفوفا من الأبراج الشاهقة المعانقة لكتل الغيم التي تجوب سماء مكة منذرة بأمطار غزيرة, والتي كانت قبل نحو أربعة عقود ''حوضا للبقر'' وسوقا شهيرا للأنعام.
أفضل من يرتب المشاهد التاريخية ويحاكي الذكريات, ويضع لبنات المقارنة الحقة هو من عاصر هاتين الحقبتين من الزمن اللتين مرتا على منطقة العزيزية, هو العم محسن الشريف والذي قال ''لم تكن هذه المنطقة سوى سوقا للأنعام والبهائم, وكان فيها حوض كبير يسقون فيها أصحاب الماشية، خصوصا البقر, حيث كان يقدم إلى هذا السوق تجار الماشية من جميع مناطق المملكة, لبيع ماشيتهم في كل الأوقات، ولا سيما في موسم الحج''.
يشير العم محسن بيده يمنة ويسرة, ويقول ''الآن وسبحان مغير الأحوال, من منطقة لا يسمع فيها إلا صوت الباعة, وأصوات ماشيتهم, إلى أبراج شاهقة تقف شامخة على جانبي هذا الطريق, تتمازج فيها أصوات السيارات, ومن يقطن هذه المنطقة الآن لا يقل مسكنه أو أرضه عن الملايين من الريالات, لأن العزيزية, وهذا هو المسمى الجديد لها, أصبحت مرشحة، لأن تكون منطقة مركزية لإيواء الحجاج, بدلا من المنطقة المركزية المجاورة للمسجد الحرام, والتي يجري فيها أعمال هدم لمصلحة المشاريع التنموية والخدمية التي تنفذها السعودية هذه الأيام''. يضيف العم محسن وهو يمد يده بكأس من الشاي لحاج وقف ليلتقط الأنفاس في رحلة ذهابه إلى مشعر منى, ليقارن بين الأمس واليوم, ''كانت هنا تكثر المقاهي التي تستقبل الوافدين إلى مكة، خصوصا باعة الماشية, يجلسون بين ثنايها يتسامرون, وبجوار كل مقهى عدد من الغرف يتم تأجيرها عليهم، ليكونوا بمقربة من سوق ''حوض البقر'' أما اليوم فأصبح من يأوي القادمين إلى مكة، خصوصا الحجاج أبراج تنخر بعبابها السماء, وخدمات راقية, وذلك بفضل النهضة العمرانية التي تشهدها السعودية في ظل القيادة الحكيمة، التي تعاقبت على مر الأزمان منذ توحيد المملكة''.
ودعت العم محسن ليكمل يومه في تقديم الشاي للحجاج, ولكنه أصر أن أحمل معي كوبا منه, وينشغل مع ضيوف الرحمن الذين أحاطوا به من كل جانب تعلو قسمات وجوههم البسمة والبعض الآخر يقهقه لحديثه الذي لا يخلو من الطرافة.
