الإرشاد التجاري.. لماذا نحتاج إليه اليوم؟
يقول التاجر العصامي المعروف: ''أدين بالفضل لفلان، كان يشجعني ويوجهني كلما ترددت في بداياتي''. ويقول أحد ريادييّ الأعمال: ''لقد تمكنت من اكتشاف قدراتي وتعلمت إدارة ميزانيتي بنفسي بعد الانضمام لذلك البرنامج''. تصف هذه التعبيرات مشكلة محورية وتعرض الحل الذي توفر لأصحابها، فأكثر من يُقبل على العمل التجاري هو في حاجة إلى الدعم (المادي والفني)، إضافة إلى حاجته إلى التوجيه والتحفيز الشخصي.
يأتي الدعم الذي يحتاج إليه ممارس العمل التجاري على أشكال عدة، سواء كان مساعدة من الآخرين أو تدريبا مجانيا أو حتى استشارة فنية بمقابل. واليوم، تتعدد هذه الخيارات لتشمل الكم المعرفي الموجود على الإنترنت وما يُطرح من برامج الجهات الداعمة (الحكومية وغير الحكومية) ومقدميّ الخدمات بأنواعهم. تتنوع احتياجات ممارس العمل التجاري وتختلف كذلك الخيارات والحلول المتوافرة له. لكن، تفتقد بعض الفئات إلى القدرة المؤسسية والمادية التي تمكنها من الاستعانة بمقدميّ هذه الخدمات بالطرق التقليدية المباشرة، وذلك لتكاليفها العالية. لذا، ظهرت الحاجة إلى ما يسمى الإرشاد التجاري أو إرشاد الأعمال - Business Mentoring. وذلك لأن الإرشاد التجاري يعتمد على نموذج دعم يتّسم بالتكلفة المعقولة حيث يستفيد من خبرات الآخرين ويستغل مهارات التواصل الشخصية ليستجيب إلى ما تحتاج إليه هذه الفئات (رياديي الأعمال ومؤسسي المنشآت الصغيرة والمتوسطة) بطرق أكثر فعالية وكفاءة.
يُعرَّف الإرشاد التجاري بأنه علاقة مقننة مع مستفيد يتلقى فيها الدعم والتوجيه المهني والشخصي والفني حول عمله التجاري على المدى القصير أو الطويل. لا يتعامل المرشد مع المستفيد وكأنه أب يتحمل المسؤولية ولا مستشار طارئ يحل الأزمات ولا حتى مستمع معالج لفضفضة المستفيد. فهو لا يتحكم في تصرفات المستفيد ولا يتحمل مسؤوليتها، لكنه يحوز معرفة ومهارة تمكنه من إرشاد المستفيد لأقرب المخارج وأسهل الحلول بطرق معقولة ومناسبة. يعتمد دور المرشد على التوجيه والمتابعة ومساعدة المستفيد معرفيا وتواصليا لجعله أقرب إلى الطريق الصحيح. قد لا يعرف المرشد كل الحلول الصحيحة لمشاكل المستفيد، لكنه قادر على تقييم الحاجة وتقديم الدعم والتحفيز بطريقة مناسبة. ولا يختلف الإرشاد التجاري عن الإرشاد النفسي والاجتماعي في شخصيّة العلاقة، لكنه عمل مهني بأدوار محددة لا تخرج عن نطاق أهداف العمل التجاري نفسه. على الرغم من ذلك، تتعدى نتائجه التجربة الراهنة (مجرد حل مشكلة ما) حين تسهم العملية الإرشادية في بناء راسخ لمهارات المستفيد الشخصية (مالك العمل).
توجد الآن في بريطانيا شبكة منظمة من المرشدين التجاريين (يصل عددهم إلى ٢٢ ألف مرشد) يشارك في بنائها القطاعان الخاص والحكومي. ينتمي هؤلاء المرشدون إلى جمعيات ومنظمات متنوعة تعمل جميعها بمعايير موحدة وهدف مشترك، وهو دعم اقتصادهم الوطني عن طريق دعم الأعمال الصغيرة والناشئة. لا يختلف الوضع كثيرا في الولايات المتحدة، حيث تهتم البرامج الأكاديمية والمهنية بتطبيقات الإرشاد التجاري لتوفير الدعم والتوجيه للأعمال الريادية ومتابعة نتائج الإرشاد بطرق تفاعلية مباشرة. حتى في الدول الناشئة، تعلن المنظمات الدولية (كالبنك الدولي) باستمرار إنجازات تنموية متميزة اعتمدت على الإرشاد التجاري لتوجيه القائمين على هذه المشاريع من الناحية الفنية وتحفيزهم شخصيا لتحقيق أهدافهم وأهداف مشاريعهم. تتطور اليوم خدمات الإرشاد التجاري بسرعة كبيرة جداً في مختلف دول العالم.
حتى تكتمل منظومة دعم الأعمال الريادية والمؤسسات الناشئة والصغيرة، لا بد من توافر مصادر موثوقة وفاعلة للإرشاد التجاري. أي أن يصبح الوصول إلى المرشدين المؤهلين: ممكنا ونافعا. في الوقت الحالي، لا ينتشر هذا الدور كثيرا في بيئتنا المحلية، لكن هذا لا يعني عدم وجود بعض المبادرات الإرشادية - قليلة جدا - التي تمارسها. تلك المبادرات، إضافة إلى الإرشاد العفوي والتقليدي الذي يحصل في بيئتنا التجارية - خصوصا العائلية - منذ عشرات السنين، في حاجة إلى منظومة توفر الدعم والاحتواء لهذا الدور الحيوي جدا، خصوصا في وقتنا الحالي.
وكي يتوافر للمستفيدين هذا الحل الضروري لهم والمهم للعملية التنموية، يجب إيجاد تعليمات مكتوبة (أو نظام) لأساسيات الإرشاد التجاري يحفظ حقوق الطرفين ويمهد لإثراء العلاقة بينهم. تشمل هذه التعليمات: أخلاقيات المهنة بما فيها الإجراءات المُحددة لأساليب التعامل مع سرية معلومات المستفيدين وحالات تعارض المصالح، إضافةً إلى شروط تأهيل المرشدين ومعايير الجودة والأداء. تبرز كذلك الحاجة إلى وجود كيان ما يقوم بتنظيم الأفراد (المرشدين)، ويسهل الاستفادة من الخبراء منهم، وينظم عملية نقل المعرفة (بين بعضهم البعض وبينهم وبين المستفيدين)، ويدعو وينسق لإعداد المرشدين الجدد باستمرار.
بطبيعة الحال، يُقدَّم الإرشاد التجاري حول العالم بمقابلٍ مادي (مثال: نوادي ومنصات الرياديين) ويقدم أيضا بلا مقابل (مثال: برامج دعم ريادة الأعمال وبعض برامج المسؤولية الاجتماعية). الإرشاد التجاري ضرورة ملحة وطارئة بغض النظر عن مدى ربحيته وأسلوب استدامته. ولدوره المهم في تقليل مخاطر فشل المشاريع الصغيرة، لا بد من دعمه في أسرع وقت ممكن. تتميز أيضاً مهام الإرشاد بسهولة أدائها لبعض الوقت، أي كعمل جزئي، خصوصا أن سلاح الإرشاد الأول يتكون من طبقة التجار الخبراء والرياديين المجربين، وهم مطالبون بتدوير المعرفة والمساهمة في إثراء التجارب الحية بتوجيهم وإرشادهم للمستفيدين. وليس في الأمر مبالغة إذا قلت إن من حق كل رياديّ ومؤسس لمنشأة جديدة الحصول على مرشد مؤهل بالمجان يعي أساليب الإرشاد ويتقن فن العطاء ولا يخرج عن المعايير المكتوبة المحددة ليُمكّن المستفيد من الدَفعة التي يحتاج إليها. وهكذا تنمو منظومة ريادة الأعمال والمؤسسات الصغيرة والناشئة بلا خلل أو شلل محققة أهدافها الاقتصادية والمجتمعية.